سأستعير هنا توصيفا دقيقا للباحث العراقي الدكتور باسل حسين عن طبيعة الفساد في العراق، فهو يصفه بأنه «فساد وقح لا يستحي». وأزيد عليه أنه فساد لا يخاف، ومطمئن لأقصى الدرجات، وهو فساد بنيوي يتواطأ عليه الجميع ويضرب أطنابه في بنية النظام السياسي، وبنية الدولة ومؤسساتها، والطبقه السياسية بكاملها دون استثناء!
في تحليل سابق لقانون الموازنة الاتحادية لعام 2021، قلنا إن التوصيف الأصدق والأكثر دقة للنظام السياسي الذي يحكم العراق اليوم، هو أنه نظام كليبتوقراطي ـ زبائني بامتياز. فالكليبتوقراطية، وتترجم عادة بـ«حكم اللصوص» تمثل المستوى الأفقي الذي يشكل هرم هذا النظام السياسي، وهي تتيح للطبقة الحاكمة استغلال هيمنتها على سلطات الدولة، وأجهزتها، ومواردها، لتوسيع مصالحها الشخصية، الاقتصادية والسياسية، وبالتالي تراكم ثرواتها الشخصية، وسلطاتها السياسية. ولا يقتصر هذا النظام على الدول الديكتاتورية أو الشمولية، بل يظهر أيضا في بعض الأنظمة الديمقراطية ذات الطبيعة الأوليغارشية التي تشكل فيها مجموعة صغيرة من الأفراد، الطبقةَ الحاكمة.
أما الزبائنية، والتي تشكل المستوى العمودي للنظام السياسي العراقي، فتعرَّف على أنها علاقة مقايضة (تقوم على المصالح المتبادلة) بين عراب وزبون/ مشتري خدمة يستخدم فيها العراب ذو المكانة السوسيو ـ اقتصادية، نفوذه وموارده لتوفير الحماية أو المصالح، أو كليهما، لمشتري خدمة يكون ذي مكانة أدنى، والذي يقوم بالمقابل بتقديم الدعم والمساعدة، بما في ذلك الخدمات الشخصية، إلى العراب.
يومها شرحنا كيف أن قانون الموازنة العامة في العراق «يُصمّم» داخل مجلس النواب لكي تجسد كل مادة أو فقرة فيه، خدمة للقوى السياسية/ الأحزاب، التي حولت مؤسسات الدولة العراقية إلى مجرد إقطاعيات لزعماء تلك القوى والأحزاب؛ من خلال إخضاع ميزانية الوزارات والهيئات أو الجهات غير المرتبطة بوزارة أو محافظة، لمساومات وصفقات وابتزاز؛ بداية من اللجان البرلمانية المعنية بالموازنة، ووصولا إلى لحظة إقرار هذه الموازنة! والمتتبع لمجريات إقرار المواد القانونية، يمكن له بسهولة، من خلال تحليل مواد قانون الموازنة، أن يعرف الجهة أو الشخص المستثمر الذي يقف وراء هذه المادة، أو تلك الفقرة!
يوم أمس الأول، وبعد أكثر من شهرين على تقديمه للمرة الأولى، شرّع مجلس النواب العراقي قانون «الدعم الطارئ للأمن الغذائي والتنمية»! وكانت المحكمة الاتحادية العليا في قرارها المرقم (121/ اتحادية/ 2022) قد قررت انه ليس من صلاحية حكومة تصريف الاعمال القائمة تقديم مشاريع قوانين لمجلس النواب العراقي. لكن مجلس النواب/ اللجنة المالية، تحايل على قرار المحكمة الاتحادية هذا، من خلال تقديم مسودة مشروع القانون نفسها على شكل «مقترح» قانون قدمته اللجنة المالية في البرلمان، بعد صدور قرار المحكمة الاتحادية مباشرة، متجاوزا قرارا سابقا للمحكمة الاتحادية ينص على أن مجلس النواب لا يملك تقديم مقترحات قوانين فيها التزامات مالية إلا بعد التشاور مع الحكومة وموافقتها. ومن الواضح طبعا، أن هذا القرار يتعلق بحكومة كاملة الصلاحيات وليس بحكومة تصريف أعمال مستقيلة، لأن العلة التي تمنع الحكومة من تقديم مشروعات القوانين هي نفسها العلة التي تمنعها من الموافقة على مقترحات القوانين لأنها ليست ذات صفة أصلا كي توافق او لا توافق أولا. ولأن الحكومة نفسها سبق لها أن قدمت مسودة مشروع القانون نفسه خلافا للصلاحيات، وهو ما يجعلها هنا طرفا متواطئا!
كيف سمح مجلس النواب لحكومة مستقيلة، بموجب الدستور، بصرف مليارات الدولارات دون أن يكون لديه أي قدرة على مراقبتها او معاقبتها؟
منذ الإعلان عن هذا القانون، نبّهنا على أنه يخالف النظام الداخلي لمجلس الوزراء نفسه، وأن تواطؤ مجلس الوزراء مع مجلس النواب على البدء بإجراءات تشريع هذا القانون، قبل أن توقفه المحكمة الاتحادية، إنما يعكس طبيعة الفساد البنيوي الذي يحكم سلطات الدولة العراقية والذي وصفناه آنفا، وهو فساد ينتهك احكام الدستور والقانون بمنهجية تزداد سلاسة يوما بعد يوم!
وقلنا أيضا إن قانون الإدارة المالية الاتحادية، قد أتاح للحكومة الاتحادية، في حالة تأخر إقرار الموازنة الاتحادية، أن تصرف 1 إلى 12 من إجمالي المصروفات الفعلية للنفقات الجارية للسنة المالية السابقة، لحين المصادقة على قانون الموازنة الاتحادية، فضلا عن الصرف من إجمالي التخصيصات السنوية للمشاريع الاستثمارية المستمرة والمدرجة تخصيصاتها في السنة المالية السابقة واللاحقة، وهذا يجعلها قادرة على تصريف الأعمال/ الأمور اليومية بشكل منتظم، مع إمكانية قيام وزير المالية ببعض المناقلات تبعا لصلاحياته. لكن المستثمرين الكبار في المال العام وجدوا ان ال 1/ 12 هذه غير كافية للاستثمار اللاأخلاقي الذي يمارسونه، وبالتالي كان لا بد من التحايل لتمرير هذا القانون الذي أطلقت عليه آنذاك «قانون الاستثمار في المال العام» لاستغلال ما يمكن استغلاله من الوفرة المالية التي حققها ارتفاع أسعار النفط مؤخرا!
والمحكمة الاتحادية نفسها هي جزء من هذه البنية، فلولا الصراع السياسي القائم اليومي، لم نكن لنشهد قرارا برفض مشروع القانون هذا، لهذا يعتمد قرار المحكمة اللاحق، في حالة الطعن بالقانون مرة أخرى، على تحولات الصراع القائم، فاذا ما استمر الصراع على حدته، ستضطر المحكمة إلى الحكم ضد القانون، أما إذا اتفق الخصوم الكبار من خلال عقد صفقة ما بين المؤيدين والمعارضين لهذا القانون، كما تشير الشواهد، فسترد بطبيعة الحال، المحكمة الاتحادية هذا الطعن!
بالعودة إلى قرار المحكمة الاتحادية فإن الحجة الجوهرية في رفض القانون، هي أنه ليس من صلاحية الحكومة المستقيلة، او حكومة تصريف الأعمال تقديم مشاريع قوانين، وذلك أن النظام السياسي البرلماني في العراق يقوم على ركيزة أساسية هي «مسؤولية الحكومة أمام البرلمان» وبما أن الحكومة القائمة هي حكومة تصريف أمور يومية فهذا يعني عدم إمكانية الرقابة عليها «لأنها تصبح رقابة مجردة من سلطة العقاب» وهو ما يعني عمليا ان مجلس النواب قد قفز على هذه الحجة من خلال مقترح القانون الذي تم قدمه!
في تصريح صحافي للمستشار الاقتصادي لرئيس مجلس الوزراء قبل أيام، فاجأنا الرجل بأن مجلس النواب العراقي لم يستطع إقرار الحسابات الختامية للموازنة الاتحادية العامة بعد العام 2012! وهذا يعني أن مجلس النواب قد مرر الموازنات الاتحادية منذ العام 2012 حتى اللحظة، دون أن يقّر الحسابات الختامية وهو انتهاك آخر للدستور العراقي الذي قرر في المادة 62 أن «يقدم مجلس الوزراء مشروع قانون الموازنة العامة والحساب الختامي إلى مجلس النواب لإقراره» ونحن نتحدث هنا عن ميزانيات تجاوزت قيمتها ترليون دولار!
فكيف سمح مجلس النواب لحكومة مستقيلة، بموجب الدستور، بصرف مليارات الدولارات دون أن يكون لديه أي قدرة على مراقبتها او معاقبتها؟ وربما سيكون عليه الانتظار عشرات السنوات لكي يقرَّ الحسابات الختامية لهذه المليارات المتطايرة!
القدس العربي