مع كل انخفاض في قيمة الليرة التركية، والإعلان عن الأرقام الجديدة المتعلقة بالتضخم ومعدلات النمو في البلاد، تبرز “جمعية الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك” (توسياد) كجهة منتقدة لسياسات الحكومة التركية. وبينما تعارض مسار “خفض سعر الفائدة” تدعو الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان للعودة إلى “قواعد العلوم الاقتصادية”.
قبل ستة أشهر في ديسمبر 2021، وعندما وصل سعر صرف الليرة إلى حاجز الـ18 مقابل الدولار، حذّرت “توسياد” الحكومة من الآثار السلبية لخفض أسعار الفائدة، وهو الأمر الذي قابله إردوغان بـ”رد مضاد”، معتبرا أنها الجمعية تستهدف “إسقاط الحكومة بطرق مختلفة وغير مباشرة”.
واليوم، وبينما تخطى فيه سعر صرف الليرة حاجز الـ17، يتكرر مشهد السجال مجددا، والذي يرى مراقبون أن جذوره تعود لسنوات طويلة ماضية، وليس “وليدة الوقت الحالي”.
وخلال اجتماع المجلس الاستشاري الأعلى لـ”توسياد” الذي عقد، الثلاثاء، قال رئيس الجمعية، أورهان توران إن “سياسات سعر الصرف التنافسي وفائض الحساب الجاري لا تتوافق مع الحاضر، ولا تؤدي إلى النتائج المرجوّة”.
وأضاف: “بينما يقوم العالم كله بزيادة أسعار الفائدة في مكافحة التضخم، فإننا نتبع السياسة المعاكسة. زيادة مستوى المخاطر غير مستدام، يجب أن نعود إلى السياسات التقليدية. مع السياسات الاقتصادية المتبعة، فإن مداخلينا تذوب”.
وإلى جانبه، دعا تونجاي أوزيلهان رئيس المجلس الاستشاري الأعلى إلى “وضع سياسة زراعية جديدة، لمنع ارتفاع أسعار المواد الغذائية في تركيا”، وأشار إلى أن “معدل الزيادة في التضخم وصل مستوى لم نشهده من قبل”، وأن “التدخلات في عمل السوق تزيد من تشويه الاقتصاد”.
وذلك ما استدعى ردا من إردوغان بقوله، الأربعاء، في اجتماع المجموعة البرلمانية لحزبه الحاكم: “سيد توران لا يمكنك أن تعلمنا درسا في السياسة الخارجية. أنت مجرد متدرب. اعرف مكانك”.
وأضاف: “إذا استمرت توسياد في هذا الاتجاه، فلا ينبغي أن تطرق باب هذه الحكومة. تتم إدارتك من نفس المركز. هذا المركز هو حزب الشعب الجمهوري. أنت تقول ما يفعله حزب الشعب الجمهوري”.
ما هي “توسياد”؟
تشغل الجمعية التي تعرف اختصارا بـ”توسياد” مكانة كبيرة في الاقتصاد التركي، منذ عام 1971 وهو تاريخ تأسيسها على يد 12 من رجال الأعمال الكبار في تركيا، من ذوي “التوجهات اليسارية العلمانية”، والذين يوصفوا بـ”أثرياء البوسفور”.
وتعتبر أكبر جمعية لرجال الصناعة والأعمال في البلاد، ومنذ تاريخ التأسيس وحتى اليوم تسيطر على عمليات التصنيع والتصدير والتجارة الخارجية التركية.
ويورد الموقع الرسمي لها أن أعضاءها يمثلون قدرة تمثيلة مهمة في الاقتصاد التركي، في مجالات مثل الإنتاج والقيمة المضافة والتوظيف المسجل والتجارة الخارجية”.
وتهدف من خلال أعمالها، بحسب التعريف الرسمي إلى “المساهمة في تشكيل نظام اجتماعي يتم فيه تبني فهم اقتصاد السوق التنافسي والتنمية المستدامة والديمقراطية التشاركية”.
ويقع مقر “توسياد” في مدينة إسطنبول التركية، ولديها مكتب تمثيلي في العاصمة أنقرة، وممثلين دوليين في بروكسل وواشنطن العاصمة وبرلين ولندن وباريس وشبكات في الصين ووادي السيليكون والخليج.
ورغم أن “توسياد” لم تكن مؤثرة على الصعيد السياسي في البداية، إلا أنها في نهاية السبعينيات اكتسب تدريجيا “مكانة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي”.
وتذكر صحيفة “جمهورييت” في تقرير لها، مارس 2022، أن الحملة التي بدأتها الجمعية في مايو 1979 بنشر إعلانات صحفية تطالب باستقالة الحكومة، لعبت دورا مهما في إسقاط حكومة بولنت أجاويد.
كما لعبت دورا رئيسيا في إسقاط حكومة نجم الدين أربكان، في عام 1997.
ويوضح الباحث السياسي التركي، هشام جوناي، أن الجمعية تضم “نخبة كبيرة من أكثر المنتجين وأصحاب رؤوس الأموال والاستثمارات في تركيا، من بينهم صبنجا وكوتش، وأخرى ذات الثقل في تاريخ تركيا الصناعي والإنتاجي”.
ويقول لموقع “الحرة”: “في الوضع الراهن وبعد إعلان أرقام النمو أعتقد أن هذه المجموعة بدأت تشكك بالأرقام ومصداقيتها، التي لا تتناسب مع المبيعات والأرباح التي تحققها. الوضع الاقتصادي الراهن الذي لا يتناسب مع هذه الجمعية”.
وعادة ما تكون لـ”توسياد” مواقف خجولة إزاء التطورات التي تعيشها البلاد، ما عدا الموقف الذي اتخذته في 2013 في أحداث حديثة غيزي بارك في منطقة تقسيم.
ويضيف الباحث: “عندما حصلت أحداث غيزي بارك، وفّر كوتش وهو أحد رجال أعمال الجمعية دعما للمتظاهرين. فتح لهم الفنادق في تقسيم ووفر لهم المأكل وما إلى ذلك”.
وعلى الرغم من ذلك، إلا أن جوناي يرى مواقفها بـ”غير الجريئة”، معتبرا أنها مثل أي رابطة رجال أعمال “همها مصلحتها وما ستجنيه من أرباح بغض النظر عن توجهات النظام الحاكم”.
“هيمنة بالأرقام”
وتشير البيانات التي تستعرضها الجمعية عبر الموقع الرسمي إلى أنها تضم 4500 شركة، ويعمل تحت مظلتها 50 بالمئة من الأتراك، بينما تستحوذ على قرابة 85 بالمئة من إجمالي تجارة تركيا الخارجية (باستثناء واردات الطاقة).
كما أنها توفر 50 بالمئة من العمالة الرسمية (باستثناء القطاعين العام والزراعة).
وتنفذ “توسياد” جميع أعمالها من خلال 10 طاولات مستديرة، حيث يعمل أعضاء مجلس الإدارة كرئيس ومجموعات العمل داخل الموائد المستديرة.
ويتم إجراء هذه الدراسات بدعم ومساهمة من الأمانة العامة والمكاتب التمثيلية والمنديات التابعة لها.
ويعتبر الأكاديمي والباحث السياسي، مهند حافظ أوغلو أن الجمعية ورغم أنها اقتصادية، إلا أنها “لها مآرب سياسية، وتقف مع المعارضة كداعم اقتصادي، لتحقق تلكل الأحزاب أهدافا سياسية”.
وقبل البيان، الذي صدر عن رئيسها، الثلاثاء، كانت مجموعة من الجمعية قد التقت زعيم “حزب الشعب الجمهوري”، كمال كلشدار أوغلو، وزعيمة “حزب الجيد”، ميرال أكشنار، بحسب ما ذكرت وسائل إعلام تركية.
و”رغم أن دول العالم كله تعاني من أزمات اقتصادية بما في ذلك تركيا”، إلا أن الأخيرة تعاني من “أزمة مزدوجة. خارجية بحكم كورونا والحرب على أوكرانيا، وداخلية خاصة بهيكلة الاقتصاد التركي عموما”.
ويضيف حافظ أوغلو: “النتيجة أن التضخم يثقل كاهل المواطن والشركات والاستثمارات على حد سواء. الاقتصاد التركي والمواطن التركي هو المتضرر الأكبر، ورغم وجود موصياد، إلا أن ثقلها وتأثيرها لا يعتبران كتوسياد”.
وبعد 19 عاما من تأسيس “موسياد” ظهرت جمعية أخرى باسم مشابه “موصياد” على واجهة الاقتصاد التركي.
وتشير تقارير وسائل إعلام تركية إلى أن رجال الأعمال المؤسسين لـ”موصياد” ذوي “خلفيات محافظة إسلامية”، وأنهم صعدوا مع صعود “حزب العدالة والتنمية” الحاكم، وباتوا بمثابة “الطرف المنافس” لـ”توسياد”، رغم أن الأخيرة ما تزال تحظى بهيمنة أكبر.
ويرى الباحث حافظ أوغلو أن “إردوغان يبدو أنه بدأ بالتركيز على الملف الاقتصادي بعد أن وضع الخطوط العريضة للسياسة الخارجية”.
ويضيف: “الآن يضع ثقله على إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية الداخلية، وبدأ بأكبر تجمع اقتصادي محلي له نفوذه على الأسواق والأسعار وأرقام التضخم. هي رسالة سياسية من رأس هرم السلطة للمتحكمين بالأسواق. أشبه ما تكون بإنذار يليه ضرب بيد من حديد”.
ويعتبر المسار الخاص بالليرة التركية والاقتصاد التركي بالعموم أحد أبرز المرتكزات التي ستحدد مآلات الانتخابات الرئاسية المقبلة، والمقرر تنظيمها في يونيو 2023.
ولم يبق لهذا الاستحقاق سوى عام واحد، وسط ضبابية تحيط بما ستكون عليه الأشهر الـ12 المقبلة.
وكان “معهد الإحصاء التركي” قد أشار قبل أيام إلى أن التضخم السنوي في البلاد قفز إلى أعلى مستوياته في 24 عاما، مسجلا 73.5 بالمئة عن شهر مايو، ومدفوعا بتداعيات الحرب في أوكرانيا، وارتفاع أسعار الطاقة، وغيرها من التداعيات التي تؤثر بالسلب.
الحرة