مسلمو الهند ضد التطرف من أول تاريخهم إلى اليوم

مسلمو الهند ضد التطرف من أول تاريخهم إلى اليوم

رغم الدعوات التي وجهتها المنظمات الإسلامية في الهند للتهدئة، لا تزال بعض الجهات تسعى لإعادة تأجيج الخلاف بين المسلمين والهندوس، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين التي لم تكتف بـ”تحزيب” الدفاع عن النبي محمد، نبي المسلمين كافة، وإنما اتهمت كل من يدعو للتعقّل والهدوء بأنه يشن حملة مضادة ضدّ المسلمين في الهند.

لندن – حكم المسلمون الهند لنحو ثمانية قرون من دون أن يتسببوا بحرب أهلية على أساس الدين. وحكم الإخوان المسلمون مصر لعام واحد، فدفعوا البلاد إلى حافة حرب أهلية على أساس الدين، وهاجموا الكنائس وصاروا يتحدثون علنا عن تهجير المسيحيين.

لماذا نجح مسلمو الهند، وسط كل تنوعها الديني، في إقامة ممالك وإمبراطوريات شاسعة وقوية، بينما فشل الإخوان المسلمون؟

السبب، من بعض نواحيه، بسيط للغاية. فبينما يبدأ الإخوان المسلمون من تكفير كل الآخرين، بمن فيهم المسلمون الذين يخرجون عن الجماعة، أو المسلمون الذين لا يؤيدونهم، فإن ملوك وسلاطين الهند المسلمين حرصوا على الامتناع عن الصراعات الدينية والعرقية والطائفية جملة وتفصيلا، ليحكموا بقوة المثال الصالح، من دون قسر ولا قهر ولا تكفير.

الإخوان وظفوا كل ما يتوفر لهم من قدرات لأجل تحويل الأزمة إلى صدام مباشر مع الهند

ممالك إسلامية عديدة في الهند تداولت الحكم في ما بينها، إلا أنها لم تتصارع لا مع الهندوس ولا مع السيخ ولا غيرهم.

وكانت الإمبراطورية المغولية التي أسسها ظهير الدين بابر حكمت الهند قرابة 300 عام، بعد أن تغلب على سلطان دلهي، إبراهيم اللودهي، في العام 1526، فرفع راية الإسلام في معظم الأراضي الهندية، إضافة إلى أفغانستان وأطرافها. وعلى الرغم من أن المؤرخين يعتبرونه واحدا من أعظم القادة العسكريين في ذلك الوقت، لأنه تغلب بجيش يتألف من 12 ألف مقاتل على جيش اللودهي الذي ضم 100 ألف، إلا أنهم يقرون له بالحكمة “في استيعاب الاختلافات العرقية والدينية بين أبناء مملكته الشاسعة”، حتى كانت وصيته لابنه هي “عدم الانسياق وراء الخلافات الطائفية والعرقية في الهند، ليحافظ على وحدة الدولة”.

جلال الدين أكبر، وهو الابن الثاني لبابر، بعد همايون، حكم لخمسة عقود (من 1556 وحتى 1605)، وتوسع سلطانه من بلاد السند (باكستان) إلى بلاد المغول، ولكنه أقام سلطانه على القاعدة ذاتها وهي احترام التنوع الديني والثقافي وإرساء الحكم على قوة المثال، وتقديم الإسلام كنموذج، وليس كأداة حرب وتفريق.

في المقابل، فإن أسباب فشل الاخوان المسلمين الأخرى كثيرة. ومنها أنهم يتعاملون مع القضايا العامة بتوتر وبميل نحو التأليب والتصعيد وتحويل الأزمات إلى مناسبة لإثارة نزعات التقاتل.

عندما اندلعت أزمة التصريحات المسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم من جانب بعض الشخصيات في حزب “بهاراتيا جاناتا” الحاكم في الهند، وظّف الإخوان كل ما يتوفر لهم من قدرات لأجل تحويل تلك الأزمة إلى صدام مباشر مع الهند، بكل ما تعنيه.

ولم تأخذ المنظمات الإسلامية في الهند بهذا المنحى. وفي خضم حملة التنديد بحزب “بهاراتيا جاناتا” وقادته، واستدعاء سفراء الهند في العديد من الدول العربية لتسلم رسائل الاحتجاج، كان زعماء تلك المنظمات يدعون مواطنيهم إلى تعليق خطط الاحتجاج، لمنع تأجيج الكراهية الدينية.

ونقلت وكالة رويترز، بين أمثلة أخرى، عن مالك أسلم العضو البارز في الجماعة الإسلامية الهندية، وهي منظمة إسلامية تعمل في العديد من الولايات الهندية أنه قال “واجب على المسلمين أن يتحدوا عندما يستخف أي شخص بالإسلام، ولكن في نفس الوقت من المهم الحفاظ على السلام”.

ولكن حتى صحيفة “العرب” لم تسلم من هجمات الإخوان ومحطاتهم الفضائية رغم أنها لم تفعل أكثر من أنها استعرضت في مقال “ماذا وراء صراخ الإخوان في هاشتاغ #إلا_رسول_الله_يا_مودي” (6 – 6 – 2022) حزمة من حملات التصعيد التي شنتها قيادات الجماعة للتحريض ضد الهند ومواطنيها العاملين في دول الخليج، وبضائعها، تحت ستار الدفاع عن الرسول الكريم.

لماذا نجح مسلمو الهند، وسط كل تنوعها الديني، في إقامة ممالك وإمبراطوريات شاسعة وقوية، بينما فشل الإخوان المسلمون؟

“أسلمة المسلمين” هو واحد من أهم المناهج الإخوانية. وهو منهج يبدأ من عدم الاعتراف بأنهم مسلمون حقيقيون، ولكنه يدفع أيضا إلى تحزيبهم وتحزيب الدين. وكانت الغاية من تلك الحملة ضد الهند جزءا من منهج “التحزيب” القائم على التحريض، والقائم بدوره على الكراهية والتكفير.

غني عن القول إن محبة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين شيء لا يمكن تحزيبه ليكون حكرا على طرف دون آخر، لأن التحزيب عنوان ضمني لحرب أهلية بين المسلمين أنفسهم، حيث يزعم كل طرف أنه يدافع عن الرسول، بينما هو يدافع عن منهجه السياسي، ويحاول استخدام الرسول كأداة من أدوات التظاهر بامتلاك الحجة. وهذا استخدام رخيص في النهاية. المسلمون أينما كانوا يصلون عليه ويسألون الله أن يصلي ويسلم عليه، ليس لأنهم أعضاء في حزب، بل لأنهم مسلمون.

كما أن الحزب الحاكم في الهند قدم الاعتذار المطلوب. وسواء أكان صادقا أم غير صادق، فإنه يدرك أن مصالح الهند مع الدول العربية والإسلامية تستوجب الامتناع عن الإساءة للإسلام، بل ولكل دين.

والمسألة قد لا تعدو كونها مسألة مصالح، لأن السياسات المعادية للإسلام واضحة في الكثير من الجوانب الأخرى في مناهج هذا الحزب. ومن الأساس، فإن التحريض ضد المسلمين في الهند، وإثارة النزاعات الأهلية لم يتحولا إلى ظاهرة واسعة الانتشار إلا عندما جاء هذا الحزب إلى السلطة في العام 2014، مستغلا الإحباط والمشاعر الدينية ليحولهما إلى أرضية للغرق في نزاعات أهلية، استهلكت حتى الآن المئات من الضحايا.

هذا الحزب، من هذه الناحية على الأقل، هو “حزب الإخوان” الهندوسي. وكلما زاد فشلا في مواجهة الأزمات الاقتصادية الكبرى، فإنه يلجأ إلى التحريض ضد المسلمين للتغطية على فشله. أي بالضبط مثلما فعل الإخوان المسلمون في مصر عندما حاولوا تحويل الأنظار عن وقوف مصر على حافة الإفلاس، بمهاجمة المسيحيين وبإعداد فرق للجهاد لكي تذهب إلى سوريا.

يخلص تاريخ الهند القريب والبعيد إلى نتيجة واحدة، هي أن استقرار القارة الهندية وازدهارها يعتمدان على عامل رئيسي واحد، هو التعايش السلمي بين الأديان.

والمسلمون في الهند، البالغ عددهم نحو 173 مليون نسمة، ليسوا أقلية هامشية وسط 800 مليون هندوسي آخر. إنهم قادة فكر وفن وعلوم، تركوا بصمات كبيرة في صناعة تاريخ الهند المعاصر، وليس فقط تاريخها القديم.

لقد عرفت الهند ما بعد الاستقلال ثلاثة رؤساء مسلمين هم الدكتور ذاكر حسين الذي كان أول رئيس مسلم للبلاد (1967 – 1969) والدكتور فخرالدين علي أحمد (1974 – 1977). أما الثالث فهو أبوبكر زين العابدين عبدالكلام (2002 – 2007)، وكان يلقب بـ”رئيس الشعب”، ويعرف بأنه “أبوالصواريخ” لأنه “قاد الفريق العلمي الذي طور الصواريخ القادرة على حمل الرؤوس النووية الهندية، وصار بطلا قوميا بعد أن ساعد في الإشراف على التجارب النووية التي أجريت عام 1998”.

وعرفت الهند شخصية مسلمة أخرى كبيرة تولت الرئاسة مؤقتا لمرتين، هو محمد هداية الله كبير قضاة الهند التاسع عشر بين عامي (1968 – 1970) كما شغل منصب النائب السادس لرئيس الهند بين عامي 1979 – 1984. وكان رجل علم وفقه ولغة.

وباختصار فإن قوة المثال، وحُسن النموذج، لا قوة القهر والتكفير، هما الأساس الذي أبقى الإسلام، ليس في الهند وحدها، بل في عدد من أكبر دول جنوب آسيا، وهي قوة جذب تستحق الذود عنها بشيء من طبيعتها النبيلة، لا بشيء من مناهج التصعيد والتطرف التي تمضي وراءها جماعات “الإخوان”، مسلمين كانوا أم هندوس.

العرب