ما يجمع بين مرتكزات الاستراتيجية الروسية في عهد بوتين، والاستراتيجية الإيرانية في عهد نظام ولي الفقيه، هو تمجيد القوة العسكرية، واستخدام العنف، والاعتماد على الجماعات المحلية الموالية استناداً إلى الرابطة القومية في الحالة الروسية، والمذهبية في الحالة الإيرانية. وتتشارك الاستراتيجيتان أيضاً في استلهام التاريخ في نزوعه التوسعي الامبراطوري، وذلك من أجل إضفاء المشروعية على خطط التمدد في المجتمعات المجاورة.
فروسيا في عهد بطرس الأكبر 1672-1725 تمثل النموذج الذي يستوحيه بوتين، بل يصرح بذلك علناً، وهو يرى بناء على ذلك أن من حق روسيا أن تكون صاحبة مجال حيوي واسع، سواء في آسيا أم في أوروبا، يمكّنها من أداء دورها بكل أريحية بوصفها قوة عظمى تمتلك رسالة، تتجسد من حين إلى آخر في زعماء بارزين يؤدون أدواراً استثنائية، يضفي عليهم الأيديولوجيون مسحة من الأسطرة والإطلاقية لدرجة أنهم يدخلونهم في دائرة المعجزات والمقدسات. وهذا ما يفعله الإيديولوجيون والمستشرقون الروس اليوم في سياق جهودهم لإضفاء صفة القائد الاستثنائي المعجزة على بوتين. هذا في حين أن بوتين من ناحيته يستغل ورقة الأقليات الروسية وحقوقها في مختلف الجمهوريات المستقلة التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، أو كانت خاضعة للنفوذ الروسي بهذه الصيغة أو تلك في العهد الامبراطوري. وفي الوقت ذاته تعْمَد روسيا البوتينية إلى مغازلة النزعات الدكتاتورية في مختلف البلدان سواء في آسيا أم أفريقيا وأمريكيا اللاتينية وأوروبا الشرقية واستمالتها، بهدف بناء التفاهمات والتحالفات معها، وعقد الصفقات التي غالباً ما تحوم حولها شبهات الفساد.
أما بالنسبة لإيران، فمن الواضح أن الإمبراطورية الفارسية بمراحلها المختلفة سواء قبل الميلاد أم قبل الإسلام، ما زالت الحلم الذي يدغدغ مشاريع ومخيلة العديد من صناع القرار في السلطة السياسية المبنية على أساس فكرة ولي الفقيه. ولبلوغ هذا الهدف كانت سياسة استخدام المظلوميات الشيعية في المجتمعات المجاورة أداة للتوسع فيها. وما ساعدها على ذلك هو اخفاقات دول تلك المجتمعات لأسباب متباينة في تحقيق المساواة العادلة بين مكوناتها المجتمعية، وعجزها عن طمأنتها ضمن إطار مشروع وطني عام، كان من المفروض أن يكون بالجميع وللجميع.
كما استثمرت ايران كثيراً، بالتنسيق مع حكم حافظ الأسد منذ بدايات ثمانينات القرن الماضي في مشروع «المقاومة اللبنانية»، ومشروع «تحرير القدس»، و«مناصرة» القضية الفلسطينية؛ وذلك بعد عقود من استغلال الأنظمة الجمهورية العسكرية القومية (لا سيما في مصر وسوريا والعراق وليبيا) لتلك القضية التي ستظل عرضة للاستغلال، طالما لا توجد معالجة عادلة لها، وظلت أسباب معاناة الفلسطينيين فاعلة.
ولا يقتصر الاستثمار الإيراني على الموضوع الفلسطيني وحده، بل هناك استثمار متواصل منذ أكثر من أربعين عاماً، وأيضاً بالتنسيق مع حكم حافظ الأسد، في ورقة «حزب العمال الكردستاني» الذي اُستخدم، ويُستخدم، راهناً أداة لدعم سلطة بشار الأسد في المناطق ذات الغالبية الكردية في سوريا، ويمثل احتياطاً يُستخدم عند اللزوم في تركيا مستقبلاً.
وإذا ما تركنا جانب الإيديولوجيا والتوجهات السياسية، لننتقل إلى ميدان الموارد سواء الطبيعية منها أم البشرية، فسنلاحظ هنا أيضاً اشتراك كل من إيران وروسيا في خاصية امتلاكهما موارد هامة على صعيد الطاقة والمعادن والزراعة، كما يمتلك البلدان موارد بشرية مؤهلة لتحقيق نهضة شاملة في مختلف القطاعات الاقتصادية والمعرفية. ولكن مشكلة البلدين تكمن في إصرار قيادتيهما على إعطاء الأولوية القصوى لقطاع الصناعات العسكرية، وتسخير الإمكانيات والموارد لصالح بناء القدرات العسكرية من جهة التشكيلات والأسلحة، واعتماد أسلوب إبهار الداخل، والعمل على إسكاته من خلال التلويح بـ«الواجبات والانتصارات أو الفتوحات» الخارجية؛ والحرص على إضعاف دول ومجتمعات الجوار، بل وخلخلة بنيتها، تمهيداً للتغلغل فيها، وذلك لتحقيق فائض قوة يستخدم لاستمرارية الهيمنة على مناطق النفوذ خارج الحدود الوطنية، أو التفكير في التوجه نحو مساحات جديدة في سياق استكمال المشاريع التوسعية التي تتطلع نحوها النزعة الإمبراطورية الرامية إلى تشكيل المستقبل بناء على ما كان، أو ما يعتقد، أنه كان، أو ما ينبغي أن يكون.
ومما يجمع بين البلدين (روسيا وإيران) هو أن النظام السياسي في كليهما منغلق على ذاته، ولا يسمح بأي تغيير نوعي جوهري في بنية نواة مجموعة الحكم والتحكّم؛ وإنما يعتمد الانتخابات المبرمجة، وفق مقاسات دقيقة محكمة، وسيلة تضمن استمرارية تحكّم المجموعة المسيطرة بكل المفاصل الدقيقة المؤثرة للدولة والمجتمع. ويشمل ذلك المؤسسات العسكرية والأمنية والإدارية والاقتصادية والإعلامية والسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ الأمر الذي يقطع الطريق أمام أي امكانية للإصلاح ضمن منظومة الحكم، ويسدّ المنافذ على الإصلاحيين من دعاة التغيير التدريجي ضمن إطار النظام السياسي القائم نفسه. كما أن قضايا المكونات المجتمعية، سواء الدينية المذهبية منها أم القومية، تبقى من دون معالجة حقيقية، وذلك تحسباً لأي تواصل إيجابي بين دعاتها والإصلاحيين، أو توجساً من إمكانية تحوّلها إلى مقدمة تمهّد لفتح بوابات الإصلاح غير المنسجم مع توجهات ومصالح مجموعة الحكم.
ولكن في عالمنا المفتوح المتفاعل، باتت مسألة إعادة إنتاج الاستبداد مكلفة للغاية، فهذه العملية تحتاج إلى جيش معلن وغير معلن من القوات القمعية والمخابرات والمخبرين، وإلى حلقات لا حصر لها من الوسطاء والمستفيدين. والقناعات الأيديولوجية لم تعد وحدها كافية لتعبئة كل هؤلاء، بل لا بد من الإنفاق عليهم، وإشراك المؤثرين منهم في صفقات الفساد. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل لا بد من الإنفاق على الأذرع الإقليمية والمحلية بدءا من التسليح والتنظيم والعمليات والرواتب ونفقات شراء الذمم، وصولأ إلى الوسائل الإعلامية؛ هذا فضلاً عن الفساد المستشري. ورغم الاستعانة بواردات الممنوعات من أسلحة ومخدرات وغيرها، وأساليب التحايل، فإن السيولة المتاحة لا سيما في ظل العقوبات الغربية الصارمة، هي في نهاية المطاف محدودة، وهذا ما سيؤدي، عاجلاً أم آجلاً، رغم كل التبجحات والادعاءات، إلى المزيد من التضييق الواقعي وفرض التقشف والحرمان عليهم، الأمر الذي ستكون من نتائجه المزيد من التذمر والمزيد من المشكلات.
وبناء على ما تقدم، نرى أن السردية الامبراطورية، سواء المعلنة في الحالة الروسية أم المضمرة في الحالة الإيرانية، هي بصيغ مختلفة وسيلة لإلهاء الداخل أو تخديره، وذلك لمنعه من المطالبة بما هو من حقه الطبيعي.
ولا يمكن تجاوزهذه العقدة التي فرّخت، وتفرّخ الكثير من العقد الأخرى في الداخل والخارج، من دون إصلاحات داخلية فعلية، تكون مسنودة باستعدادات أكيدة لتحمّل مسؤولية الاستحقاقات المترتبة على ذلك. فخطوات من هذا القبيل إذا ما اتخذت، هذا ما اقرارنا المسبوق بهشاشة احتماليتها، من شأنها جعل امكانية التفاهم مع الجوار الإقليمي والمجتمع الدولي امكانية واقعية، تتبلور من خلال الحوارات الجادة، والتفاهمات ذات المصداقية، الأمر الذي من شأنه فتح الآفاق أمام التعاون، وتبادل الخبرات والمعارف والمصالح في المجالات العلمية والتقنية والاقتصادية، وكل ذلك يساهم في ضمان مستقبل أفضل للأجيال المقبلة.
أما الاستمرار في عقلية الحرص على صنع المزيد من الصواريخ والطائرات الحربية، والاستمرار في الجهود الرامية إلى امتلاك الأسلحة النووية أو صناعة المزيد منها، وتطويرها، وتهديد العالم بها، فكل ذلك لن يؤدي إلا إلى التحضير للمزيد من عمليات التفجير على مختلف المستويات هنا وهناك.
الحرب الروسية على أوكرانيا مستمرة، وكذلك الحروب الإيرانية على مجتمعات المنطقة، وهناك مخاطر جدية باتساع نطاق هذه الحروب، وزيادة حدتها، وتراكم وتفاعل آثارها السلبية؛ وكل ذلك ينذر بالمزيد من القتل والتدمير والخراب والتهجير، وهذا فحواه المزيد من التباعد والتعقيد وصعوبة المعالجة.
العالم اليوم هو في مواجهة احتمالين رئيسيين:
الأول، ارتفاع منسوب التوترات والتعقيدات على المستويين الإقليمي والدولي، والاستعانة بالحلفاء لتعزيز الجبهات، واستخدام أنواع جديدة من الأسلحة والأوراق بهدف إلحاق الهزيمة بالخصم وإذلاله، وهذا احتمال كارثي ستكون تبعاته مأساوية على الجميع في المدى المنظور والبعيد.
أما الاحتمال الثاني، فهو البحث عن إمكانية الوصول إلى حلول، قد تبدأ بتسويات محدودة تمهّد الطريق أمام تفاهمات تدريجية من شأنها تمكين الأطراف المتصارعة من التوافق على خطوات تفتح الآفاق أمام مشاريع تنموية مشتركة، تساهم في تطوير التكنولوجيا والصناعة السلمية في البلدين ليصبحا قادرين على إنتاج السلع النوعية التي من شأنها تلبية الاحتياجات الداخلية، وامتلاك المواصفات التي تستوجبها المنافسة العالمية، وهذا ما سيساهم إلى إحداث تغييرات نوعية في العقلية والسلوك، ويدفع نحو الوفاق والانسجام على المستوى الداخلي، وهو الأهم؛ كما يؤسس لتفاهمات وتوافقات على المستويين الإقليمي والدولي، توافقات وتفاهمات من شانها فتح الآفاق أمام تعاون دولي مشترك يكون في صالح الجميع، تعاون يمكّن المجتمعات الإنسانية من التصدي للتحديات التي تواجهها، خاصة ما يتصل منها بالفقر والجهل والمرض والأوبئة والمتغيرات المناخية.
القدس العربي