شهد العالمُ المُعاصرُ ونظامُهُ الدَّوليُّ ووحداته السِّياسيَّة الرَّئيسيَّة (الدول القوميَّة..) بعد انتهاء الحرب الباردة مجمُوعة من التَّطوُّرات الرَّئيسيَّة، على كافَّة الصُّعُد، السِّياسيَّة، والاقتصاديَّة، والعسكريَّة، والثقافيَّة، والتكنُولوجيَّة، بحيثُ انعكست تلك التَّطوُّرات على واقع البيئة الدَّوليَّة برُمَّتها، وفي هذا الإطار، طُرِحَت تساؤُلاتٌ عديدةٌ حول أثر التَّحوُّلات في النِّظام الدَّوليِّ على الأحلاف الدَّوليَّة، وأيضاً حول مُستقبل حلف الناتو، ولاسيما أنَّ أدبيَّات الأحلاف النَّابعة من المدرسة الواقعـيَّة تُفيدُ بأنَّ سُقُوط حلفٍ يعني تفكُّك الحلف المُضادِّ، وأنَّ الأحلاف بصفةٍ عامَّةٍ تتفكَّكُ بفعـل الهزيمة في الحرب، أمَّـا في حالة الانتصار على الحلف المُضــادِّ فـإنَّ الواقعـيَّة ترى أنَّ الحلف المُنتصر إمَّــا أنْ يُقلِّـص حجمهُ أو يتفكَّك(1). وفي هذا الصدد، نتناول هنا: “حلف النـاتو والمنطقة العـربيَّة”، وسوف يتم تقسيم المقالة إلى محورين رئيسيين، أولا: تطـوُّرُ استراتيجيَّة حلف الناتـو، ثانياً: حلفُ النـاتو والمنطقة العـربيَّة.
أوَّلاً- تطـوُّرُ استراتيجيَّة حلف الناتـو:
شهدت استراتيجيَّةُ حلف شمال الأطلسيNorth Atlantic Treaty Organization)) تطوُّراً ملحُوظاً، حيثُ امتدَّ نشاطُهُ، خلال التسعينيات من القرن الماضي، إلى منطقة حلف وارسو السَّابق )Warsaw Pact)، وسعى لضمِّ العديد من دُوله إلى عُضويَّته. وقد تطوَّرت عقيدةُ الحلف، خلال الفترة ما بين عامي 1991 حتى 2001، من “الرَّدع” إلى “الدِّفاع عن المصالح الجماعيَّة” لأعضائه خــارج أراضيه(2).
وقد سعى حلفُ الناتو لانتهاج استراتيجية جديدة بعد انتهاء الحرب الباردة تستجيب ومعطيات البيئة الأمنية العالمية المتغيرة، ومنها منطقة جنوب المتوسط والشرق الأوسط، إذ شهدت قمة الحلف في روما، عقب انتهاء هذه الحرب، التوصية بصياغة استراتيجية جديدة للحلف، مفادها أنه يتعين على الحلف إيلاء السياسة الأمنية للدول المتوسطية غير الأوروبية أهمية خاصة، انطلاقا من أن تحقيق الاستقرار والأمن على الحدود الجنوبية للدول الأوروبية يعد أمرا مهما لأمن الناتو. ومن ثم، فقد تمثلت مُعضلة الحلف في تحقيق الاتساق بين ميثاقه الذي لا يُتيحُ التدخُّل خارج أراضيه ومُواجهة التهديدات الأمنية التي تُهدِّدُ مصالح أعضائه، ممَّا حدا بالحلف لإصدار مفهُومين استراتيجيين، الأوَّلُ عام 1999، والثاني عام 2010 .(3)حدَّد المفهُومُ الأول مُهمَّةً جديدةً لحلف الناتو، هي “إدارةُ الأزمات” دُونَ تَحْدِيدِهَا بمنطقةٍ جُغرافيَّةٍ مُعيَّنةٍ. وجاء في ذلك المفهُوم “ضرُورةُ أنْ يَبْقَى الحلفُ على أهبة الاستعداد للإسهام في كُلِّ حالةٍ على حدةٍ وبصُورَةٍ جَمَاعِيَّةٍ في الوقاية بفاعليَّةٍ مِنَ النزاعات، والمُشاركة بنشاطٍ في إدارة الأزمات بما يتضمَّنُهُ ذلك من عمليَّاتٍ لِلرَّدِّ على الأزمات، وذلك وفق القرارات الأُمميَّةِ”. كَمَا جَاءَ فِي المَفْهُومِ: “يَجِبُ عَلَى الحلف أنْ يضعَ في اعتباره الإطار الكونيَّ، إذْ يُمْكِنُ أنْ تتأثر المصالحُ الأمنيَّةُ للحلف ودُوله بسبب مخاطر تتجاوزُ مُجرَّد العُدوان على أراضي أحد أعضائه”. ووفقاً لهذا المفهُوم، فقد اتَّسَعَتْ مجالاتُ التدخُّل العسكريِّ للحلف لتشمل الأسباب الإنسانيَّة، وعمليَّات حفظ السَّلام، ومنع الانتشار النَّوويِّ، سواءٌ داخل أوروبا أو خارجها، وهُو ما يَعْنِي تَعْدِيلَ المادَّة الخَامِسَةِ التِي لَمْ تكُن تُتِيـحُ ذَلِكَ التَّدَخُّـلِ مِنْ قَبْلُ(4).أما المفهُومُ الاستراتيجيُّ الثاني 2010: فقد تم صياغته تحت عُنوان: “المفهُومُ الاستراتيجيُّ والأمن لأعضاء منظُومة شمال الأطلسيِّ”، وتضمَّنت العناصر الاستراتيجيَّة التي يرى الحُلفاءُ نَجَاعَتَهَا في العقد المُقبل، وقد أقرَّ هذه الوثيقة قادةُ دُول الأطلسيِّ الـ(28)، في قمَّتهم التي عُقِدَتْ في لشبُونة في نوفمبر 2010.
إنَّ اخْفَاقَاتِ الولاَيَاتِ المُتَّحِدَةِ العَسْكَرِيَّةِ فِي حُرُوبِهَا فِي أفغانستان والعراق كَانَتْ هِيَ الهَاجِسُ الرَّئِيسُ الذِي حَكَمَ الخُبَرَاءَ وَقَادَةَ الحِلْفِ فِي اعْتِمَادِهِمْ لِلاستَرَاتِيجِيَّةِ الجَدِيدَةِ، حَيْثُ تَخَطَّى الحِلْفُ المَفْهُومَ الدِّفاعيَّ التقليديَّ الذِي يَرْتَكِزُ عَلَى نَظَرِيَّةِ الدِّفَاعِ عَنِ الإِقْلِيمِ دَاخِلَ الحُدُودِ، وَأرْسَى مَفْهُوماً جَدِيداً للدِّفاع وَبَسْطِ الأَمْنِ بِالعَمَلِ ابْتِدَاءً مِنْ خَارِجِ الحُدُودِ، وَضِمْنَ الفَضَاءِ الاستراتيجيِّ الحَيَوِيِّ الذِي يُحَدِّدُهُ الحِلفُ لِنَفْسِهِ بِالاسْتِنَادِ إِلَى مَا يَرَاهُ مِنْ مَصَالِحَ لِدُوَلِهِ فِي هَذَا الإِقْلِيمِ أَوْ ذَاكَ. وَفِي هَذَا يُمْكِنُ أن نَجِدَ تكريساً وَاضِحاً لِنَظَرِيَّةِ “الحَرْبِ الاستباقيَّةِ” التِي يُمْكِنُ لِلحِلْفِ أَنْ يَخُوضَهَـا ضِدَّ أَيِّ عَدُوٍّ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنَ العَالَمِ(5).
ثانياً- حلفُ النـاتو والمنطقة العـربيَّة:
1- العــراق: اقترحت الولاياتُ المُتحدةُ في15 يناير 2003 : أدواراً مُساندةً مُحتملةً لحلف الناتو في حال وُقُوع عملٍ عسكريٍّ ضدَّ العراق، لكنَّ الحلف آنذاك دخل في مأزقٍ حقيقيٍّ؛ لأنَّ عدداً من أعضائه كانُوا إمَّا مُعارضينَ للحَرْبِ أو مُطالبين بمُشاركة الأُمم المُتحدة فيها، فأنظمةُ الحلف الداخليَّة تنُصُّ على أنْ تُتَّخَذَ القراراتُ بالإجماع، وقد اعترضت كُلٌّ منْ فرنسا وألمانيا وبلجيكا ولوكسمبورج بشدَّةٍ على هذه الخُطَّة الأمريكيَّة المُقترحة، بينما ذهبت دُولٌ أُخرى في الحلف لتأييد هذه المُقترحات، كبريطانيا وإيطاليا والدنمارك وإسبانيا، والتشيك والمجر وبولندا. وبلغ تضارب المواقف ذروته، وذلك عندما لم تتردد الدول المعارضة في استخدام حق النقض (الفيتو) مرة بعد أخرى لمنع الناتو من اتخاذ أي ترتيبات تتعلق بإشراك الحلف في هذه الحرب. وظل الأمر على حاله حتى 16 فبراير 2003 حين استطاع الحلف إنهاء الأزمة والتوصل إلى اتفاق ولكن ليس في مجلس شمال الأطلسي (NAC) وإنما في لجنة الناتو للتخطيط الدفاعي (DPC). وقد تم حل الأزمة بعد موافقة الولايات المتحدة على تقليص شروطها بإسقاط طلبها إحلال قوات تابعة للناتو محل القوات الأمريكية التي يتم نشرها في الخليج انطلاقا من أوروبا، والتركيز على تخصيص طائرات الأواكس وبطاريات صواريخ التقاطع (الباتريوت). وقد كان التعاون والتنسيق في بداية احتلال العراق في نيسان 2003 محدودا جدا، بين القوات متعددة الجنسيات في العراق بقيادة أمريكا وحلف الناتو، إذ أن الحلف كان ومازال يطلق في جميع وثائقه تعبير “العملية” (operation) على جُهُوده العسكريَّة في أفغانستان، كدلالةٍ عَلَى كِبَرِ حَجْمِهَا، وأهمِّيَّةِ هَذَا الدَّوْرِ واستمراريَّتِهِ، بينما يصفُها في العراق بـ”المُهِمَّةِ” (Mission)، للتَّعْبِيرِ عَنْ محدُوديَّتِهَا. ومع تزايُد الصُّعُوبات التي واجهتها أمريكا في العراق توصَّل الحلفُ إلى حلٍّ وسطٍ يقُومُ بمُوجبه بمُساندة أمريكا في تلك العمليَّات، بدُون الاشتراك في العمليَّات القتاليَّة، عن طريق إنشاء بعثةٍ لحلف الناتو في العراق (بعد طلبٍ رَسْمِيٍّ من الحُكُومة العراقيَّة آنذاك)، لتأخُذ على عاتقها واجبات تدريب أفراد الجيش العراقي، والمُساعدة في إصلاح القطاع الأمني، وتنسيق عمليات تجهيز الجيش العراقيِّ بالمُعدَّات والأسلحة. وقد اعتبر الناتو أنَّ هذا التَّعاوُنَ مُفيدٌ جدّاً لتحقيق الاستقرار في العـراق(6).
ويُعتبر العراقُ شريكاً مُهمّاً اليوم لحلف الناتو خارج الحُدُود الجُغرافيَّة التي تُمثِّلُها أعضاءُ هذا الحلف، وبالتالي يُعْتبرُ العراقُ ساحةً مُهمَّةً يُطلُّ منْ خلالها (الناتو) على منطقةٍ ذات قيمةٍ استراتيجيَّةٍ كبيرةٍ، خُصُوصاً في ظلِّ تصاعُد حدَّة التَّنافُس مع قوى أخرى على الدَّور والنُّفُوذ هُناك. لذلك استثمر حلفُ (الناتو) التَّحوُّلات التي حصلت في العراق بعد 2003 ليبدأ بعدها مرحلةً مُهمَّةً من مراحل حُضُوره في المشهد العراقيِّ، قام منْ خلالها حلفُ الناتو بعمليَّة تدريبٍ للقُوَّات العراقيَّة الأمنيَّة والعسكريَّة الجديدة التي تشكَّلت بعد حَلِّ الجيش العراقيِّ السَّابق، وتمَّ فيها تدريبُ أكثر من 15 ألف مُنتسبٍ في وزارة الدِّفاع العـراقيَّة.
وبعد أن بدأ تنظيم “داعش” بالهيمنة على مساحة واسعة من العراق في صيف 2014، تقدمت الحكومة العراقية بطلب رسمي إلى الناتو من أجل المساعدة، خصوصاً في مجال توسيع مهام التدريب للقوات العراقية، ليتم في حينها القيام بتدريب مجموعة من الضباط العراقيين في الأردن تحت رعاية الحلف، والذين وصل عددهم إلى 350 متدرباً. في حين أسهم حلف الناتو في 2016 بتقديم الدعم للحكومة العراقية وجهودها في محاربة الإرهاب، من خلال المشاركة الميدانية في “التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب” عبر استخدام طائرات الأواكس الاستطلاعية، ليصبح لاحقاً الحلف جزءاً من هذا التحالف الدولي، ولتتزايد بعدها بشكل تدريجي دور مهمة بعثة الناتو في العراق، وصولاً إلى شهر فبراير الماضي (2021)، حين تقدمت الحكومة العراقية بطلب رسمي بتوسيع مهام الحلف، بشرط أن تبقى مهمته غير قتالية وتقتصر على تقديم الاستشارات وتدريب القوات العراقية(7).
وفي 15 سبتمبر 2021 التقى السيد رئيس أركان الجيش الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، قائد بعثة حلف الناتو في العراق الفريق (مايكل لولزكارد)، وعدداً من مستشاري البعثة. وناقش الجانبان خلال اللقاء جملة من القضايا المهمة، التي من شأنها أن تسهم في تطوير القدرات التدريبية للجيش العراقي. وأكد رئيس أركان الجيش على فتح آفاق جديدة ومتطورة للتعاون مع حلف الناتو في العراق.من جانبه قدم قائد البعثة شُكرهُ وتقديرهُ للتَّعاوُن والجُهُود المبذُولة منْ قبل رئيس أركان الجيش في دعم حلف الناتو، وتسهيل عملها في العــراق(8).
الخلاصة عن دور الناتو في العراق: أنه تمثل في عمليَّات التدريب والتأهيل للقُوَّات النِّظاميَّة العراقيَّة. وتُحاولُ حُكُومة مصطفى الكاظمي أنْ تدفع باتجاه إبقاء مُهمَّة الحلف فيإطار التدريب الأمني والعسكري بالدرجة الأولى، والمُساعدة أيضاً في تقديم العـون الاستخباراتي..
2- ليبيا: في السَّابِعِ من مارس 2011 اتَّخَذَ مجلسُ الأمن القرار رقم (1973) بفَرْضِ حَظْرٍ على جميع الرِّحلات الجويَّة في المجال الجويِّ الليبيِّ منْ أجل المُساعدة على حماية المدنيين، باستثناء الرِّحلات الجويَّة التي يكُونُ غرضُها الوحيدُ غرضاً إنسانيّاً(9). علاوةً على ذلك رخَّص مجلسُ الأمن للدول الأعضاء “باتِّخاذ جميع التدابير اللازمة” لحماية المدنيين والمناطق الأهلة بالسُّكَّان المدنيين المُعرَّضين لخطر الهجمات في ليبيا بما فيها بنغازي، مع استبعاد أيِّ قُوَّةِ احتلالٍ أجنبيَّةٍ أيّاً كان شكلُها. إنَّ عبارة “جميع التَّدابير اللازمة” تُشِيرُ إلى سَمَاحِ مجلس الأمن للدُّول بالتَّحرُّك حتَّى عسكريّاً، وبالطبع الدُّول لا يُمكنُها التَّحرُّكُ فرديّاً في مثل هذه المواقف، وإنَّما عادةً منْ خلال مُنظَّماتٍ إقليميَّةٍ كحلف شمال الأطلسيِّ، أو تَحَالُفٌ نابعٌ منهُ(10). وهُنا قرَّر حلفُ الناتو التدخُّل في الأزمة الليبيَّة، ولم يكُنْ هَذَا القَرَارُ أمْراً يَسِيراً بالنَّظَرِ إلى خبرات الحلف السَّلبيَّة في أزْمَاتٍ سَابِقَةٍ، وَمِنْهَا حَملاَتُ الحلف في البلقان التي كَانَت تتطلَّبُ مُوافقة كُلٍّ منْ أعضائه على حدةٍ، ممَّا أدَّى إلى تخبُّط تلك العمليَّات(11). منْ جِهَةٍ أُخْرَى يَرَى الحِلْفُ أنَّ الحَالَةَ الليبيَّة تَوَفَّرَتْ فِيهَا ثَلاَثَةُ شُرُوطٍ جَعَلَتِ التَّدخُّلَ مُمْكِناً وَضَرُوريّاً، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ: أوَّلُهَا: طلبٌ داخليٌّ مِنَ المعنيين أنفُسُهُم، حيثُ اعتبر أنَّ الشَّعْبَ طلب المُساعدة الدَّوليَّة لإنقاذه من مَجَازِرَ كان نظامُ القذافي سيقترفُها في حقِّه لإخماد الانتفاضة الشعبيَّة وإبقاء نظامه. ثانيها: وُجُودُ شرعيَّةٍ دوليَّةٍ عبر قرار مجلس الأمن الذي شَرْعَنَ التَّدخُّلَ لحماية المدنيين، وبالتالي تحرَّك الحلفُ في إطار الشَّرعيَّة الدَّوليَّة. ثالثها: وُجُودُ مُطالبةٍ إقليميَّةٍ بالتدخُّـل، أي شَرْعَنَةٌ إقليميَّةٌ-عـربيَّةٌ للتدخُّـل في ليبيـا(12).
ويرى البعضُ أنَّ التدخُّل الأطلسيَّ في ليبيا قد ينتهي بضمِّ ليبيا إلى الحوار، لتكون بذلك العضو الثامن، وتكون الحليف الأكبر للناتو، وهذا بدوره يُسهِّلُ التَّموقُع الأطلسي في شمال أفريقيا، وبالتالي، سيُساعـدُ في مُكافحة الإرهاب في هذه المنطقة المُضطربة أمنيّاً(13). وفي هذا الصَّدد يقُولُ الأمينُ العامُّ السَّابق للحلف، أندريس فوج راسموسن: “نُرحِّبُ بليبيا الديمقراطيَّة كشريكٍ في الحوار المُتوسِّطيِّ”. وأضاف أنَّ: “الحلف لا يعتزمُ نشر قُوَّاتٍ بريَّةٍ في ليبيا”، ولكنَّ للحلف أشكالاً أُخرى للوُجُـود، وفقاً لاستراتيجيَّة “الأمن الناعم”. ويتمثلُ ذلك في الحالة الليبيَّة في “بناء المُؤسَّسات الأمنيَّة”، وذلك كما جاء في الرُّؤى الأكاديميَّة الصَّادرة عن الحلف إبان الأزمة الليبيَّة.
إنَّ تدخُّل الناتو في الأزمة الليبيَّة على ذلك النحو يُعدُّ انتهاءً عمليّاً للحُدُود بين ما هُو “عالميًّ” و”إقليميٍّ”. وفي هذا الصَّدد، تُعدُّ ليبيا ثغرةً مُهمَّةً لنفاذ الناتو للقارَّة الإفريقيَّة التي تُمثِّلُ تهديداً لمصالح أعضائه، منْ حيثُ تزايُد مُعدَّلات الهجرة غير الشَّرعيَّة، ناهيك عن المصالح النفطيَّة. أمَّا التَّحدِّي الأهمُّ الذي يُواجهُهُ الحلفُ، فهُو التَّصدِّي لتنظيم القاعدة في شمال إفريقيا. إنَّ وُلُوجَ مُنظَّمَةٍ عسكريَّةٍ بحجم الناتو إلى المنطقة العَرَبِيَّةِ يُعَـدُّ تطوُّراً مُهمّاً للأمْنِ القَـوْمِيِّ العَـرَبِيِّ(14).
وقد صرح راسموسن الأمين العام الأسبق للناتو عام 2011 أن: “الحلف سيبقى في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي لفترة طويلة لما يمتلكه من خبرة تساند الحكومة الانتقالية الجديدة في تدعيم الديمقراطية في الدولة الجديدة، و نقل المؤسسات العسكرية و المدنية إلى حكومة ديمقراطية جديدة”(15).
وبَعْدَ أنْ قُتِلَ القذافي يوم 23 أكتوبر 2011 بالقُرْبِ من سرت، أنْهَى حِلْفُ الناتو حملتهُ الجويَّة (التي دامت سبعة أشهُر) يوم 31 أكتوبر 2011، ووفقاً تصريحات حلف شمال الأطلسي، فإنَّ عمليات التحالُف العسكريَّة، بقيادة الولايات المُتحدة، اعتمدت على التكنُولوجيا المُتطوِّرة، والتخطيط الدَّقيق، وضبط النفس لحماية المدنيين من قُـوَّات القـذافي(16). وبعد انتهاء هذه المرحلة، ودُخُول البلاد في فترةٍ انتقاليَّةٍ أشارت عدَّةُ تقارير إلى أنَّ: “أكبر قُصُورٍ للناتو عام 2011 كان هُو عدمُ مُساعدة البلد في استعـادة الاستقـرار بعد انتهاء العمليَّات العسكريَّة.(17)“
وفي هذا الجانب رأى بعضُ القـادة في الناتو أنَّ: “الحلف بعد العمليَّة لمْ تقدّمْ لهُ أيُّ مطالبَ بالمُساعدة، وكُلُّ ما قدَّمهُ المُساعدة في تكوين مُؤسَّساتٍ أمنيَّةٍ، ثمَّ سُحِبَتْ هذه المُطالبات بعد تغيير الحُكُومة.. فلا بد أن يكون هناك طلب صريح للمساعدة في أي مجال.. وإذا قدم المسؤولون الليبيون طلبات بالمساعدة، فالناتو على استعداد للقيام بهذه المهمة.. إننا نريد التدخل وفقا للقانون، وبشرط حدوث اتفاق على بناء مؤسسات ليبيا من جديد. من أجل تحسين الأوضاع لا بد أن تتحمل المسؤولية أيضا دول المنطقة، وتدعم وساطة الأمم المتحدة”. وفي نفس التوجّه، اعترف قيادي آخر في الناتو: “بعدم وجود خطط كافية من قبل الحلف لفترة ما بعد العمليات، على الرغم من أن ما حققه الحلف هناك يعتبر نجاحا كبيرا، حيث أسقط نظام القذافي، لكن لم يتم تحديد وظيفة ومهمة محددتين للحلف للقيام بهما بعد العمليات العسكرية”(18).
جديرٌ بالذِّكر أنَّ رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج طلب (في عام 2017) مِنَ الأمين العامِّ لحلف شمال الأطلسي (ينس ستولتنبرغ)، مُساعدة ليبيا في تعزيز مؤسسات الأمن والدفاع، وفق مسؤول إدارة الاتصال بالمكتب الصحفي للناتو دانيال رييجو، والذي أكَّد أنَّ طلب السَّرَّاج يخضعُ للدِّراسة منْ قبل حلف الناتو، ويُجرى مُشاوراتٌ مع الدُّول المعنيَّة بهذا الخُصُوص(19).
من جهته، قال الأمين العام للحلف (ستولتنبرغ): “إنَّ المُنظمة وافقت على تقديم مُساعدةٍ فنيَّةٍ وتقنيَّةٍ في مجال الأمن والدفاع، للحُكُومة الليبيَّة بقيادة السراج”.وقال في مؤتمر صحافي مشترك مع فايز السراج: “الناتو وافق على مُساعدة ليبيا بالخبرات الفنيَّة والتقنيَّة، وسيقُومُ الحلفُ بتقديم مُساعداتٍ لوجستيَّةٍ في مجال الدفاع والأمن لحُكُومة السراج، التي يدعمُها الناتو بصفتها الحُكُومة الشرعية الوحيدة”. أمَّا السرّاج فذكر أنَّ مجمُوعة من خُبراء “الناتو” اجتمعُوا مع الحُكُومة الليبية واتفقُوا على صيغةٍ مُشتركةٍ للدَّعم الفنِّيِّ، ممَّا سيُساعـدُ في استقرار البلاد”. وكانت دُولُ “الناتو” اتفقت، في يوليو (2017)، على إعداد تعاوُنٍ مع السُّلطات الليبيَّة لوضع استراتيجيَّةٍ أمنيَّةٍ لمُكافحة تنظيم “داعش”، الذي كان ينتشرُ في بعض أنحاء ليبيا(20).
وجاء في بيان قمة حلف الناتو، في بروكسل، في 11 يوليو 2018: “نحن ندعم عملية سياسية ليبية بقيادة ليبية، وتهدف إلى تعزيز المصالحة السياسية الوطنية وتقوية مؤسسات الدولة”. وفي ذات السياق مع البيان الذي أدلى به رئيس مجلس الأمن في 6 يونيو 2018، نرحب بالتزام الأطراف الليبية بالعمل بشكل بنّاء مع الأمم المتحدة لإجراء انتخابات شاملة وآمنة وموثوقة، حسب ما ورد في مؤتمر باريس بتاريخ 29 مايو 2018. ووفقاً لقرارات قمتينا في ويلز ووارسو، لا نزال ملتزمين بتقديم المشورة إلى ليبيا في مجال بناء مؤسسات الدفاع والأمن، استجابة لطلب رئيس وزراء حكومة الوفاق الوطني لمساعدة حكومته في تعزيز مؤسساتها الأمنية. دعم الناتو سيأخذ في الاعتبار الظروف السياسية والأمنية. أي مساعدة لليبيا سيتم تقديمها بتكامل تام وبالتنسيق الوثيق مع الجهود الدولية الأخرى، بما في ذلك جهود الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، حسب الاقتضاء. كما أننا مستعدون لتطوير شراكة طويلة الأجل، ربما تقود إلى عضوية ليبيا في حوار البحر الأبيض المتوسط(21).
وقد أعرب أمين عام للناتو، (ينس ستولتنبرج)، في مارس الماضي، عن استعداد الحلف لتعزيز العمل الأمني في ليبيا، شريطة طلب الليبيين ذلك.وقال أمين عام حلف شمال الأطلسي، في كلمته خلال مؤتمر صحفي: بخصوص ليبيا، رحبنا بالمعلومات حول الحكومة الانتقالية، والإعداد لانتخابات ديسمبر.وأكد أن الحلف سيواصل مساندته لمسار السلام، وسيساعد كذلك في تعزيز العمل الأمني عندما يقرر الليبيون ذلك(22).
جدير بالذكر أن بعض المصادر الإعلامية ذكرت أن: هناك مقترحا يدرسه “الناتو” لتوجيه طلب رسمي للحكومة الليبية لاستغلال منطقة متاخمة للحدود مع تونس، لغرض الدفاع.ويهدف الناتو من وراء هذه الخطوة، إلى وضع حد للخلاف بين الأعضاء حول تواجد قوى لدول أعضاء هناك.وتحدث المصدر عن تحفظ من قبل بعض تلك الدول على المقترح بانتظار طرحه بشكل رسمي خلال اجتماع وزراء دفاع الحلف(23).
خُلاصة القول ختاماً، أنَّ ساحة عمليَّات حلف الناتو انتقلت من مكانها التَّقليديِّ في القارَّة الأورُوبيَّة إلى أماكن أخرى من العالم منها: شمال أفريقيا والمغـرب العــربي، ومنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط. وأن معظم نشاطاته في هذا الصدد تمثلت في عمليَّات التدريب والتأهيل بالتنسيق مع السلطات الرسمية، مع اختلاف طبيعة النشاطات ومستوياتها في كل دولة من الدول المشار إليها سلفا.
السياسة الدولية