قام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الأربعاء 22 حزيران، بزيارة إلى تركيا في إطار جولة قادته قبلها إلى كل من مصر والأردن.
ومن المتوقع أن يكون تباحث بن سلمان مع الرئيس التركي أردوغان في استكمال خطوات التطبيع الكامل بين البلدين بعد نحو أربع سنوات من القطيعة التامة على خلفية اغتيال الصحافي السعودي المعارض الراحل جمال خاشقجي داخل مبنى قنصلية بلاده في إسطنبول في الثاني من شهر تشرين الأول عام 2018. وذلك إضافة إلى التوقعات بشأن البحث في ضخ استثمارات سعودية كبيرة في الاقتصاد التركي الذي يمر بأزمة حادة من التضخم (70%) وانهيار قيمة العملة المحلية (أكثر من 17 ليرة للدولار الواحد) وانخفاض احتياطيات البنك المركزي من العملات الصعبة.
أشار استطلاع رأي أجرته شركة متروبول بعنوان “نبض تركيا- أيار 2022” إلى أن نحو 30% ممن استطلعت آراؤهم يؤيدون التطبيع مع السعودية مقابل 60% يرون فيه تطوراً سلبياً. أما أحزاب المعارضة فقد انتقدت تطبيع العلاقات مع السعودية من منطلق أن الحكومة “باعت” قضية خاشقجي مقابل الأمل في الحصول على استثمارات سعودية قد تساهم في تذليل بعض الصعوبات الاقتصادية، أو أنها “تخلت عن المبادئ مقابل المصالح”.
الواقع أن السياسة، وبخاصة سياسات الحكومات، لا تأبه بالمبادئ الأخلاقية، بل تستخدمها أحياناً كأداة للتمويه على المصالح إذا كانت هذه من القبح ما يجعلها بحاجة للتستر عليها. حتى الأحزاب السياسية خارج الحكم تستخدم كل الوسائل الممكنة للوصول إلى السلطة كبوصلة ثابتة لها، في حين أن المبادئ الأخلاقية أو الإيديولوجية لا تعدو كونها وسائل لاستقطاب الجمهور لصالحها، سرعان ما تتخلى عنها بعد الوصول إلى السلطة.
السياسة، وبخاصة سياسات الحكومات، لا تأبه بالمبادئ الأخلاقية، بل تستخدمها أحياناً كأداة للتمويه على المصالح إذا كانت هذه من القبح ما يجعلها بحاجة للتستر عليها
غير أن التطبيع التركي – السعودي له، مع ذلك، خصوصيات تجعله مختلفاً بعض الشيء في سياق السياسات القائمة على المصالح. ذلك أنه لم يأت بعد خلاف سياسي عادي يمكن تلافيه بتوافقات أو حلول وسط هي جوهر العمل السياسي، بل بعد قضية شغلت الرأي العام في تركيا والعالم طوال شهور، وباشر القضاء التركي التحقيق فيها، فنشرت تفاصيل واسعة موثقة بالصور والفيديو أمام الرأي العام، وتم اتهام مجموعة الأفراد الذين جاؤوا من السعودية خصيصاً لارتكاب الجريمة وعادوا أدراجهم في اليوم نفسه.
في شهر نيسان الماضي، قبيل زيارة أردوغان للرياض، قررت المحكمة التركية التخلي عن القضية وتحويل ملفها إلى القضاء السعودي بدعوى أنه “لم يتم القاء القبض على المتهمين بجريمة الاغتيال، وليس هناك ما يشير إلى إمكانية ذلك في المستقبل”. كان صعباً تبرير هذا القرار أمام الرأي العام المحلي، وكتبت الصحف الكثير في نقده، كما استأنفت خطيبة خاشقجي التركية هذا القرار أمام محكمة التمييز رافضةً التخلي عن قضية اغتيال خطيبها. واعترض أحد قضاة تلك المحكمة على القرار وسجل اعتراضه، فتم نقله، بعد فترة قصيرة، إلى مدينة نائية وصفت بـ”المنفى”.
الفكرة هي أن السياسيين قلما يحسبون حساباً لاحتمالات التراجع عن كلامهم أو مسالكهم، فيتورطون في مواقف يصبح التراجع عنها محرجاً ومكلفاً، وسبب ذلك هو الشعور بقوة موقفهم وشعبيته في لحظة معينة، فلا يتمالكون انفسهم من إطلاق تصريحات حماسية تلقى استجابة شعبية كبيرة، لكنها ترتد عليهم وعلى بلادهم بخسائر باهظة إذا تغيرت الظروف في اتجاهات غير مرغوبة.
ينطبق هذا الأمر أيضاً فيما خص التطبيع التركي مع دولة الإمارات العربية المتحدة. فقد بلغت حدة الخلافات درجة غير مسبوقة إلى درجة اتهمت فيها وسائل الإعلام المقربة من الحكومة القيادة الإماراتية بتمويل المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا في تموز 2016. ثم دارت الأيام وبدأ تبادل الزيارات الرسمية بين انقرة وأبو ظبي.
وكذا إسرائيل التي اتهمها أردوغان في مؤتمر دافوس بانها “بارعة في قتل الأطفال الفلسطينيين” ثم كانت سنوات من القطيعة بدأت مؤخراً تزول لصالح تطبيع العلاقات بين البلدين. مع العلم أن إسرائيل هي التي كانت سباقة بتوتير الأجواء بين البلدين حين أقدمت على قتل عشرة مدنيين أتراك كانوا على متن سفينة “مافي مرمرة” في إطار حملة عالمية لفك الحصار عن قطاع غزة. فالقاعدة في هذا السياق هي أن إسرائيل تقتل، في حين أن خصومها يتكلمون فقط.
أما التطبيع التركي مع مصر فهو يمضي قدماً ولكن ببطء، وقد استجابت الحكومة التركية لعدد من مطالب نظام السيسي فيما خص وجود معارضين مصريين على أراضيها، فأوقفت بث قنوات التلفزيون المصرية المعارضة التي كانت تعمل على الأراضي التركية. واضح أن نظام السيسي يريد من تركيا أن ترتد بصورة كاملة على موقفها الحاد من انقلاب حزيران 2013 والذي استمر طوال السنوات الماضية. وكان هذا الموقف هو السبب الرئيسي وراء معاداة كل من الرياض وأبو ظبي للقيادة التركية، بلغت درجة وقف أي استيراد للسلع التركية من قبل السعودية.
أمام حملة التطبيع هذه مع كل من الإمارات والسعودية وإسرائيل ومصر، ظهرت تكهنات كثيرة في الصحافة التركية بشأن تطبيع محتمل مع نظام الأسد في سوريا أيضاً. وتتلهف أصوات معارضة للحكومة التركية شوقاً إلى هذا التطبيع المرغوب من وجهة نظرهم، على الأقل من منطلق أنه “مدخل ضروري” لإعادة ملايين اللاجئين السوريين إلى بلدهم بدعوى انتهاء الحرب.
يمكن القول إن الأمير محمد بن سلمان قد حقق، بزيارة أنقرة، شوطاً كبيراً نحو تواجده على الدولية، وستكون جائزته الكبرى في هذا السياق اللقاء مع الرئيس الأمريكي جو بايدن في الرياض الشهر المقبل.
الشرق الاوسط