طعم الفوز في الانتخابات التركية الأخيرة لم يتلذذ به حوالى 50% ممن شاركوا في هذه الانتخابات وحسب، بل مئات الآلاف من الذين ساندوا تجربة حزب رجب طيب أردوغان في الداخل والخارج، ودعموا مواقف عربية ودولية عديدة لتركيا. ولذلك، رأينا الفرحة تنتشر لتصل إلى عواصم عربية وإسلامية وأوروبية كثيرة.
أراد بعضهم انتخابات تركيا، في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، فرصة للانقضاض على حزب العدالة والتنمية، وإسقاط “السلطان” عن عرشه، بعدما برز بريق الأمل في انتخابات يونيو/حزيران المنصرم، حيث تلقى الحزب ضربته الموجعة التي قدمها خصومه المحليون والإقليميون على أنها الضربة ما قبل القاضية التي ستخرج أردوغان وحزبه من الحلبة السياسية إلى ما دون رجعة، لكنهم لم يحققوا ما أرادوه.
بذلت قوى محلية وإقليمية عديدة، وما تزال، جهداً كبيراً لإضعاف حزب العدالة والتنمية، وإبعاده عن الحكم في تركيا، لأنه من أهم العقبات التي تعترض طريق تحقيق مشاريعها وأهدافها في المنطقة، وتحرك شوارعها وجامعاتها وزوار دور عبادتها باتجاه المساءلة والاستفسار. لكن غضب البعض ونقمتهم، في العامين الأخيرين تحديداً، وصلا إلى محاولتهم تحويل المشهد في الساحة السياسية التركية إلى بقعة لتصفية الحسابات مع “العدالة والتنمية” عبر دعم جماعات وقوى محلية وإقليمية وتمويلها، لإشعال الفوضى ونشر الخوف والرعب داخل المدن التركية، من خلال تحريك خلايا الإرهاب والقتل والعثور على شركاء محليين يحققون لهم ما يريدونه، رداً على مواقف حزب العدالة والتنمية، وبسبب انغماسه في أكثر من ملف عربي وإقليمي، ومحاولة التأثير فيها.
نظرة خاطفة اليوم على القوى والجماعات والأصوات التي تشكك في نتيجة الانتخابات التركية من الخارج، وتحاول أن تبرر أسباب الهزيمة، وتتوعد تركيا و”العدالة والتنمية”، وتردد أن فرحته ستكون قصيرة، لأن “الحرب الأهلية مقبلة”، والورقة الكردية هي بيدهم، و”داعش” باق حتى إشعار آخر في قلب خطط رسم الخرائط والسياسات، تكفي للتعرف على أهمية الانتصار الكبير الذي حققه رجب طيب أردوغان وأحمد داود أوغلو في هذه الانتخابات، من دون الحاجة إلى الدخول في تفاصيل لائحة المتضررين والغاضبين والناقمين.
تحولت الانتخابات التركية الأخيرة، هذه المرة أيضاً، إلى انتخابات عابرة للحدود، واكبتها حالة
من الاصطفاف وشهر السيوف والمواجهات بين محاور وجبهات داخلية وخارجية كثيرة. لكن، ما لم يكن أحد يتوقعه هو أن يتعلم حزب العدالة من دروس الهزيمة قبل خمسة أشهر فقط، وأن يعيد توحيد صفوفه، ويحشد الملايين مجدداً، ليخرج أقوى مما كان عليه قبل انتخابات عام 2011. وكان الناخب التركي قد عاقب في يونيو/حزيران المنصرم “الابن المدلل” الذي بعثر أثاث المنزل، وهو تلقف الرسالة وقبلها، ليخرج مجدداً إلى الساحة السياسية، معلنا أن الانطلاقة ستكون، هذه المرة، مشابهة لانطلاقة العام 2002، يوم التأسيس والولادة.
يخيب “العدالة والتنمية” آمال بعضهم في توصيفهم نتائج انتخابات يونيو المنصرم بأنها بداية النهاية، وانطلاقة العد العكسي في تراجعه وسقوطه، ويتركهم أمام حقيقة ظهور خريطة سياسية وحزبية تركية جديدة. العدالة وحده في الحكم حتى العام 2019، وهو في أسوأ الأحوال شريك أول وأساسي في رسم سياسة تركيا في المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية في العام 2023، وأهم ما في مقدورهم فعله إما تغيير مواقفهم حيال حزب العدالة والتنمية وتركيا، أو التصعيد والتهديد والتلويح، ورفع عدد محور الراغبين في تصفية الحسابات مع أردوغان.
بدأ المنهزمون في هذه الانتخابات من الخارج يصطفون وراء الطعن بنزاهة الانتخابات، وقطع الطريق على الناخب الكردي، في مزاولة حقه المشروع والدفاع عن حرية الإعلام والإعلاميين الأتراك والتجني والإهانة والحديث عن القمع والتهديد والتدخل في قرار الناخب، وإبراز “برقيات التهنئة” التي وجهتها الجماعات المتشددة والمتطرفة إلى أنقرة من الداخل السوري، كما يقول، أو تعميم مواقف البيت الأبيض في “قلقه” على مصير حرية الصحافة في تركيا، لكن آخر مبتكراته لتخفيف حجم الصدمة، وارتدادات الهزيمة، كانت الإعلان أن مقياس الصناديق ليس كل شيء في الديمقراطيات، وحتى في دولةٍ، مثل تركيا، تعرفت إليها، واعتمدتها منذ مطلع العشرينيات.
مشكلة المنهزمين في الداخل أنهم لن يقبلوا الهزيمة أبداً، ولن يرضوا بأن الناخب التركي عاقبهم هم، هذه المرة، على التفريط بفرصة منحها لهم في يونيو/حزيران الماضي، لكن مشكلة الناقمين على أردوغان وحزبه في الخارج أنهم باتوا يحتاجون إلى سلاح أكثر فاعلية وتأثيراً. لذلك، سيرتكبون أخطاء مميتة عبر لعب أوراق سترتد عليهم، عاجلا أو آجلاً، وهي ستساهم في فتح الأبواب أوسع أمام العدالة والتنمية على المستوى الإقليمي هذه المرة أيضاً.
“على بركة الله”، هكذا هتف داود أوغلو، وهو يضرم النار في شعلة انطلاقة المرحلة المقبلة في تركيا، لكن “العدالة والتنمية” أمام امتحان تحقيق الوعود التي أطلقها طوال مرحلة الحملات الانتخابية في القضايا السياسية والدستورية والاجتماعية والاقتصادية. ما زالت مشكلته مع جزء من أكراد تركيا الذي يحتاج إلى طمأنته، وإقناعه بأن المسألة الكردية ستحل في الأشهر المقبلة. وستبقى مشكلته في تسريع وإنجاز ملف العلاقات التركية الأوروبية، إذا ما كان يريد أن يلتحق بالمجموعة حقاً، وأن يزيل عقبة نقاشات “الكيان الموازي” التي لا يمكن أن يتركها تطول أكثر من ذلك، وإنجاز مشروع الدستور التركي الجديد، وحسم مصير ملفات عالقة في مسار العلاقات العربية التركية، وفي مقدمتها العلاقات التركية المصرية، بعد حصوله هذه القوة البرلمانية القادرة على توفيرالغطاء القانوني والشعبي الذي يحتاج إليه. –
سمير صوالحه
صحيفة العربي الجديد