إلى أي مدى تلقي التحولات الدولية التاريخية، التي بدأت منذ نهاية عصر الحرب الباردة عام 1989، بتداعياتها على بنية التحالف الغربي، الذي يربط جانبي الأطلسي- الولايات المتحدة، وكندا من ناحية، وأوروبا الغربية على الناحية الأخرى؟
وما الذي يمكن أن يقدمه من إجابة على هذا السؤال، قيام 18 مركزاً للبحوث، ومؤسسات عامة للشؤون السياسية، بتقديم منح، لسفر وفود من الاتحاد الأوروبي إلى أمريكا، بهدف محدد، هو دعم جهود تقوية التعاون الأطلسي، في إطار مناقشات وبحوث، خلال الفترة من يناير/كانون الثاني 2014 وحتى 31 ديسمبر/كانون الأول 2015.
إن جلسات البحث والمناقشات، قسمت على محاور هي: حوارات لصياغة مبادرات للسياسة الخارجية، لاتخاذ مواقف مشتركة من القضايا ذات الاهتمام المشترك، كالأمن والطاقة، وتغير المناخ، وتعميق التعاون الاقتصادي، والتجارة، والاستثمار.
ومن الواضح أن التوقيت، واختيار موضوعات البحث والمناقشة، هما دليل على سعي مدروس لمواجهة تحديات أساسية، تتعرض لها بنية التحالف الغربي، وسط تصاعد تغييرات ليست في صالح التحالف، سواء من جانب تغيير مفاهيم الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة ذاتها، وهي الشريك الأكبر في هذا التحالف، أو نتيجة تحولات أخرى مؤثرة، صنعها الصعود الاقتصادي والجيوبوليتيكي في آسيا، أو حتى حدوث تغيير معنوي في دول صغيرة ومتوسطة، كان التحالف الغربي ممسكاً بزمام السيطرة عليها، أو كانت تعتبر القوى الغربية مركز الإلهام الثقافي والحضاري لها.
فالولايات المتحدة انتهجت بالفعل منذ حوالي أربع سنوات، توجهاً يركز في استراتيجيتها العالمية على آسيا، ووصفتها بأن هذه المنطقة ستكون قاطرة السياسات العالمية في السنوات القادمة. وهذا يعني من زاوية نظر أوروبا، انتقاصاً من الاهتمام الأمريكي التقليدي بأوروبا، باعتبارها كانت خط المواجهة الأول في مدة الصراع الأمريكي – السوفييتي، من بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. ثم ما بدأت أوروبا ترصده من تقلبات السياسة الخارجية لإدارة أوباما، وفقدانها رؤية الاستراتيجية المتكاملة في سياستها الخارجية، خاصة مع الحلفاء والأصدقاء.
بالطبع كان تدخل روسيا في أوكرانيا، وضمها جزيرة القرم، قد أوجد قوة دافعة على جانبي الأطلسي لتقارب المواقف. ودفع أمريكا للعودة للتركيز – نسبياً – على أوروبا، وخفف مرحلياً – من المشاعر الأوروبية السلبية، تجاه تراجع الانشغال الأمريكي بها. لكن هذا لم يكن حلاً جذرياً، لتأثير التحولات التاريخية الجارية على بناء التحالف.
وبالنظر إلى برامج الثمانية عشر مركزاً أمريكياً للبحوث السياسية، سنجد أن من بين عناوينها:
خيارات أوروبية ومستقبل تحالف الأطلسي، لمعهد بروكنغز. ويتحدث عن التدخل العسكري الأمريكي في عالم بعد العصر الأمريكي.
الشراكة الأوروبية – الأمريكية في التعامل مع التحديات الدولية – للمعهد الأوروبي في الولايات المتحدة.
إيجاد طريق إيجابي للشراكة الأطلسية عقب الأزمة في أوروبا. لمؤسسة كارينجي.
الحوار الاستراتيجي الأوروبي – الأمريكي حول عالم عربي يتغير. لأتلانتيك كونسيل.
من الواضح أن الخطر الذي كان يوحد مواقف جانب التحالف، ممثلاً في الاتحاد السوفييتي، لم يعد موجوداً، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وتحول أمريكا إلى القوة العظمى الوحيدة. وهذا خفف إلى حد ما من تماسك التحالف.
ثم إن تغييراً في الموقف الأمريكي في عهد جورج بوش، قد خلق مزاجاً عاماً من القلق في أوروبا تجاه أمريكا، وقيمة التحالف معها، عندما أعلنت إدارة بوش أن قرارها غزو العراق عام 2003، دون موافقة أكبر حلفائها، هو قرار يخصها، وأنها غير ملزمة بالرجوع إلى الحلفاء، في قرار للسياسة الخارجية، ترى واشنطن أهميته في تقديرها.
وعقب ذلك تراجعت العلاقة التاريخية بين جانبي الأطلسي خطوات إلى الوراء. وهو ما خلق أزمة خفية في بنية التحالف، ظلت تتفاعل تحت السطح. وانعكست على تقلص قدراتها على التعاون في المشاكل الاستراتيجية الأكبر، الناتجة عن ظروف العصر الحالي المتغير. وراح البعض يلقي اللوم على غياب التهديد المشترك، وتفاوت النظرة للمصالح الأمنية، واختلاف الاستراتيجيات بشأن مواجهة متفق عليها للتهديدات الجديدة، ولطبيعة النظام الدولي لما بعد الحرب الباردة، بينما يعتقد آخرون أنه مزيج من كل هذه الأسباب.
وحين أصبح الغرب عموماً، يواجه تهديداً متزايداً من الإرهاب، تصاعد بظهور تنظيم «داعش» وانتشاره، وتبعاته الخطيرة على الأوضاع الداخلية في الغرب، فإن ذلك لم يؤدِ إلى تراجع الخلافات، والتلاحم بين الحليفين، بل ربما يكون قد زاد منها، وهو ما تحدثت عنه بحوث ودراسات أوروبية، راحت تشكك في جدية تعامل إدارة أوباما مع هذا الخطر، خاصة وأن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، لم يحقق أهم الأهداف المرجوة منه، وهو كسر الشوكة العسكرية ل«داعش»، ووجود شكوك تجاه مواقف دول دخلت هذا التحالف، لكنها لا تساعده، مثلما تفعل تركيا.
مع ذلك يبقى الميراث الطويل للتحالف، والتداخل بين شركائه في مجالات متعددة، سبباً للسعي للإبقاء عليه، والدعوة لتقويته، كونه رمزاً مادياً ومعنوياً للغرب كله، والذي لا يزال يجمع أطرافه ميراث مشترك يعود إلى عصور النهضة، والفلسفة اليونانية، والديانة المسيحية.
ويبقى السؤال: هل يصمد التحالف أمام تحولات تاريخية في عالم يتغير بالفعل، وتنعكس تغيراته على المفاهيم السياسية، والفكر الاستراتيجي، والأوضاع الاقتصادية، خاصة في أوروبا؟.
عاطف الغمري
صحيفة الخليج