قبل أقل من ثلاث سنوات وصف الرئيس الفرنسي ماكرون حلف الناتو بأنه في حالة موت سريري. كما استخف الرئيس الأمريكي السابق ترامب بالحلف، وهدد بالانسحاب منه. واليوم يُعلن الحلف عن مفهوم استراتيجي جديد في قمة استثنائية، ويشهد توسعا في البلطيق على تخوم روسيا، فهل استفاق الناتو من حالته السابقة؟ وما المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف؟
تأسس الناتو عام 1949 بهدف الدفاع عن أعضائه في مواجهة تمدد الاتحاد السوفييتي، عندما كان في زمن ستالين يتوسع غربا، فبعد الحرب العالمية الثانية استولت روسيا على عدة دول، وبسطت سيطرتها عليها، مثل ألمانيا الشرقية، بلغاريا، رومانيا ودول أخرى. كما كان لديها نفوذ كبير في دول البلقان وتحتل دول البلطيق. كان الاعتقاد السائد لدى النظام الرأسمالي، أن انتشار النظام الشيوعي خطر محدق وسيؤدي إلى دمار الدول الرأسمالية، لذلك أنشأت حلف الناتو الذي ضم في عضويته 12 دولة آنذاك، كانت أبرزها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، إضافة إلى دول أخرى، لكن النقلة النوعية حدثت في عام 1997، حين مدّ جناحيه في عدد من دول أوروبا الشرقية، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
وإذا كان الحلف قد استمتع بحالة من السلم والأوقات الهادئة، التي سادت بين أربعينيات القرن المنصرم حتى غزو العراق وأفغانستان في بداية الألفية الثالثة، فإن التحديات التي يواجهها اليوم تبدو جمة. صحيح أن في الحلف دولا أعضاء تمتلك ترسانة نووية هي، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، لكن التحدي الأول هو كيفية تفادي مواجهة نووية مع روسيا. كذلك يبرز التحدي الآخر في كيفية بقاء أعضائه في حالة تماسك صميمي وليس شكليا، لمواجهة الأزمات الدولية. ويرى بعض المراقبين أن التحدي الثاني يتفوق على الأول، لأنه يمس الوحدة الداخلية للحلف، فقد مرّ وقت كانت فيه باريس من أشد المتمسكين بالاستقلالية الاستراتيجية عن الولايات المتحدة الأمريكية. ويبدو أن هذه الفكرة ما زالت موجودة وتتخذ زخما مع الوقت، وأن الكثير من الأوروبيين يتناغمون معها، بل يعتقدون أن توليهم زمام أمورهم في النواحي الأمنية والعسكرية مطلوب، لأن أوروبا باتت مختلفة عن الولايات المتحدة الأمريكية. في حين ترى واشنطن عكس ذلك. ومع ذلك ورغم كل التحفظات فإن الأوروبيين اليوم يساهمون في رفع معنويات الولايات المتحدة، من خلال تبنيهم استراتيجية بايدن في الحكم، والقبول بتصنيفاته لخطورة الدول الأخرى على الأمن الدولي، بما فيه الأمن الأوروبي، حيث يمكن رؤيتهم بصورة واضحة وهم يحاولون إرضاءه ويسيرون خلفه في هذه التوجهات لكنهم مرغمون. وهذه كلها عناصر تغذي الأطروحة الأمريكية داخل حلف شمال الأطلسي، أكثر من جدلية ما هو أوروبي وما هو أمريكي. وإذا كانت أوروبا قد استكانت للرأي القائل بأن الناتو غطاء مهم لها، فإنها في الوقت نفسه ترى أنه لا بد من إعطائها بعض الحرية، أو بعض الاستقلالية في بعض المجالات، كي تتمكن من توفير أمنها القومي بعيدا عن الولايات المتحدة، لكن ماذا عن المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف الذي سيضع الاوروبيين في مواجهة جار قريب هو روسيا، وحليف تجاري كبير هو الصين؟
يُعتبر المفهوم الاستراتيجي هو المنظومة التي تحدد التوجهات والتحديات للسنوات العشر المقبلة للحلف، وكذلك طبيعة التصدي لها والرد عليها. وكان آخر تحديد للمفهوم الاستراتيجي قد حدث في عام 2000 في القمة التي عقدت آنذاك في مدريد أيضا، وقد أعلن الحلف في قمته الأخيرة عن مفهوم استراتيجي جديد يغطي السنوات العشر المقبلة. وتضمن زيادة حجم قوات التدخل السريع إلى 300 ألف جندي، وزيادة الدعم العسكري والسياسي لأوكرانيا على المدين القريب والبعيد، ونشر قوات إضافية جاهزة للقتال على الجناح الشرقي لأوروبا. لكن الأبرز والأهم في هذا المفهوم الاستراتيجي الجديد، هو تصنيف روسيا بأنها التهديد الأخطر على دول الحلف، وتصنيف الصين على أنها تهديد متصاعد وخطر مستقبلي، وهذه أول مرة في التاريخ يصف الحلف في وثيقة المفهوم تعاظم قوة الصين العسكرية، وأنه يجب الانتباه إلى التحديات التي تمثلها. وإذا كانت خطورة روسيا قد أتت من غزوها لأوكرانيا، فإن التهديد الصيني للحلف جاء مدفوعا بالاستياء من موقفها في أوكرانيا، حيث رفضت إدانة الغزو الروسي كما يدعي الغرب. كما أنهم يقولون بأن الشراكة العسكرية والاقتصادية بين موسكو وبكين تتوثق. وعلى الرغم من أن بعض الأوروبيين يتحفظون على هذا الاتجاه، ويرونه مطلبا يخص المصالح الأمريكية وليس الأوروبية، لكن المملكة المتحدة تدفع لتبني الرؤية الأمريكية تجاه الصين. فوزيرة الخارجية البريطانية دعت الغرب إلى أخذ الدروس والعبر من الأزمة الاوكرانية، وذلك بتقوية تايوان لصد أي غزو صيني محتمل لها، كما يبدو أن هنالك ضغطا أمريكيا بريطانيا على دول كاليابان وأستراليا ونيوزيلندا، لحثها على إيجاد منظومة عسكرية تحميها من الجار الصيني. وقد شاركت هذه الدول في قمة الناتو الأخيرة لأول مرة.
أحد أساليب النفوذ الأمريكي هو إبقاء الدول الأوروبية تحت سيطرتها ونفوذها، وتدعمها في هذا التوجه المملكة المتحدة التي لم تكن يوما تؤمن بالوحدة الأوروبية
إن تحديد روسيا والصين كتهديد رئيسي للناتو ينطوي على بُعد استراتيجي مهم جدا، وهو الشروع باستقطاب دول الجوار لهذين البلدين، رغم أن هذه الدول بعيدة عن أوروبا وأمريكا، وبذلك سيصبح ميزان القوى يعمل ضد روسيا، ويوفر مراقبة دائمة للصين. الجديد في هذا الموقف أيضا، هو أن هذا الإعلان سيدفع إلى بدء دورة جديدة من الصراعات والتنافس الدولي، وقد يشهد العالم أشكالا جديدة من النزاعات والحروب المباشرة وغير المباشرة. فإذا شرعت الولايات المتحدة في ضم دول الجوار الصيني إلى الناتو، فمن المؤكد أن الصين ستُسارع إلى الرد بالعمل على تهديد المصالح الغربية مع شركائها الإقليميين مثل كوريا الشمالية، مينمار، باكستان، أفغانستان ودول أخرى. كما أن هذا الموقف الغربي من روسيا والصين سيدفع بهما نحو بعضهما الآخر. فالتقارب الصيني الروسي هو تقارب مصالح في الدرجة الأولى، بمعنى أنه لا يوجد ادعاء صيني ولا ادعاء روسي بالمشاركة في الدفاع عن قيمهما كما يدعي الغرب، إنما هي مصالح تدفعهما للتعاون. وعندما يضعهما الغرب في سلة تصنيف واحدة فإن هذا سيعزز من التقارب والتفاهم بينهما، خاصة أن الرئيس الروسي والرئيس الصيني عند لقائهما عشية الألعاب الأولمبية الشتوية، بدا واضحا أنه كانت بينهما تفاهمات مفتوحة في مجالات واسعة، وقد تتعزز هذه النزعة اليوم أكثر من أي وقت مضى.
إن أحد أساليب النفوذ الأمريكي هو إبقاء الدول الأوروبية تحت سيطرتها ونفوذها، وتدعمها في هذا التوجه المملكة المتحدة التي لم تكن يوما تؤمن بالوحدة الأوروبية. وقد حاولت أمانيا وفرنسا وإيطاليا إيجاد مخرج للأزمة الأوكرانية قبل نشوبها وبعد نشوبها، لكن الولايات المتحدة وبريطانيا كانتا تراهنان على الحرب. هذا الموقف الأوروبي كان نابعا من أن الخسائر ستتحملها أوروبا وليس غيرها، بينما الفوائد ستجنيها واشنطن، التي اعتمدت أسلوب التخويف من روسيا، ما دفع أوروبا إلى أن تأتي تحت العباءة الامريكية.
القدس العربي