يعود الملف السوري إلى الواجهة، بشقّيه العسكري والإنساني. ففي شقه الإنساني، أو الإغاثي تحديداً، تعود المواجهة الروسية للمجتمع الدولي من الزاوية السورية هذه المرّة، بعد استغراقها ما يقارب من خمسة أشهر في حربها على أوكرانيا، وكأنها في استراحة محارب، لتدخل في خصام دولي عن رفضها دخول المساعدات الإنسانية عبر الآليات السابقة المعتمدة لإيصالها إلى السوريين خارج مناطق نفوذ النظام.
وإذا لم يكن جديداً على روسيا أن تمارس عملية ابتزازٍ للمجتمع الدولي، مقابل الموافقة على تمرير قرار تمديد آلية إيصال المساعدات إلى سوريين عبر المنافذ التركية، وهو القرار المتجدّد على طاولة مجلس الأمن منذ عام 2014، فإن الغريب أن يصرّ مجلس الأمن على اتباع الإجراءات المعتمدة سابقاً، ومنها موافقة النظام على عبور الشاحنات، التي كانت غايتها الوصول إلى مناطق محاصرة من قوات النظام السوري والمليشيات المساندة له في حمص وريف دمشق، التي أصبحت جميعها تحت حكم النظام السوري، ما يجعل التساؤل مشروعاً بسبب مناقشة دخول المساعدات بموافقة روسية من عدمها.
وعلى الرغم من أن روسيا تمارس، في كل عملية تجديد للقرار، مقايضة مع المجتمع الدولي، بغرض إعادة الاعتبار لحكومة دمشق، أو حسب التعبير الروسي لسيادة دمشق، التي ينتهكها، على ما يبدو، عبور شاحنات المساعدات الغذائية إلى نحو مليونين ونصف مليون من فقراء سورية في الشمال السوري، فإن الحديث عن عودة الشق الآخر من الملف السوري العسكري إلى واجهة الأخبار هو الأَولى بالحديث عن انتزاع السيادة السورية، أو انتهاكها كلياً، سواء في شمال البلاد أو جنوبها.
إعادة ترسيم لحدود التماس والاشتباك بين كل من تركيا (النظام السوري من الشمال وبين الأردن)، النظام السوري من الجنوب
تعدّ المناطق الآمنة التي يجري الحديث عنها شمالاً عبر عملية عسكرية تقودها تركيا بعمق 30 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، أو جنوباً عبر الدعم الأردني لفصائل معارضة يعود الحديث عن إحيائها، بعد ترحيل معظم قادتها وأعضائها إلى الشمال السوري إثر عملية تفاوضية برعاية روسية عام 2018، ضمن عمليات انتزاع سيادة النظام وحلفائه من هذه المناطق، وإلحاقها بالدول التي أنشأتها، أي هي عملية تقسيم الدولة السورية وتغيير حدودها، حتى في غياب اعتراف دولي حالي بهذه الحدود. أو هي، في أحسن الأحوال، إعادة ترسيم لحدود التماس والاشتباك بين كل من تركيا (النظام السوري من الشمال وبين الأردن)، النظام السوري من الجنوب، وهي حدودٌ قابلة للديمومة أكثر منها قابلية للزوال، وذلك لأسباب عديدة منها:
جنوباً، استمرار تحالف النظام السوري مع النظام الإيراني، ما ينشئ تحالفاً مضادّاً للوجود الإيراني على الحدود الجنوبية لسورية، التي تمسّ أمن الأردن وإسرائيل، ومن الخلف أمن الخليج العربي عموماً، وهو ما أثبتته السنوات التي تلت اتفاق الجنوب 2018، وقضى “بتسليم المعارضة سلاحها وتسليم جميع نقاط المراقبة على طول الحدود السورية الأردنية لتكون تحت سيطرة الحكومة السورية”، وانعكس ذلك سلباً على الأردن والسعودية خصوصاً، ودول خليجية أخرى، أُغرقت أراضيها بشحنات المخدّرات عبر المنافذ السورية، وتعرّض الأردن لأكثر من اشتباك مسلّح مع المهرّبين، ما أدّى اليوم إلى حديث عن منطقة آمنة بعمق 35 كيلومتراً تسيطر عليها فصائل معارضة، تحمي المعابر الرسمية التي يحكمها النظام السوري بعد تعهده بإبعاد إيران عن المنطقة الجنوبية.
شمالاً، إصرار تركيا على إبعاد “قوات سوريا الديمقراطية” إلى الداخل السوري، بعمق لا يقلّ عن 30 كيلومتراً، وقطع طريق “الكوردور” الكردي السوري مع حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً، وبالتالي، إنهاء حلم الإدارة الذاتية بتشكيل كيان مستقل على الحدود مع تركيا.
وفي وقتٍ يعمل الأردن، ومعه دول خليجية وبمساندة إقليمية ودولية، على استبيان الرأي، ودراسة سيناريوهات متعدّدة لإبعاد إيران من منطقة الجنوب السوري، من دون الصدام العسكري المباشر مع قوات النظام السوري، باستخدام الفصائل السورية، وإحياء غرفة الموك التي كانت تقود العمل المسلح منذ عام 2013 وحتى 2018 بإدارة أميركية عربية مشتركة، تعلن تركيا مواجهتها المباشرة، عبر قوات جيشها ضد القوات الكردية، حليفها جيش النظام السوري. ما يعني أن تركيا تنوي خوض حربٍ معلنة وبينيةٍ مع النظام والقوات الكردية، في وقتٍ لن يكون لروسيا حضور عسكري ينتزعها من انشغالها عن غزوها أوكرانيا. فهل راهنت تركيا على ذلك عند إعلانها توقيتاً قريباً للعملية العسكرية، أم أنها عقدت تفاهمات مع روسيا لإتمام عملية نزع “قوات سوريا الديمقراطية” من على حدودها، وإعادة بناء خريطة تماس حدودية جديدة، إضافة إلى إعادة تصنيف “قوات سوريا الديمقراطية” فصيلاً تابعاً للنظام، بعد أن عملت “الإدارة الذاتية” سنوات على تقديم نفسها تشكيلاً سياسياً وعسكرياً مستقلاً عن النظام ومعارضته.
“المناطق الآمنة” التي يجري الحديث عنها اليوم ليست مناطق آمنة، بل هي مجرّد تقاسم مناطق نفوذ إقليمي
تهدف العملية التركية في تل رفعت إلى قطع أواصر الامتداد الكردي في ما سمّي الإدارة الذاتية، ولكن هل تحدُث الحرب، أم يكون غبارها غطاءً لجملة اتفاقات تحت الطاولة، بين تركيا من جهة، وكل من إيران، وروسيا، من جهتين متقابلتين معها؟ مع ذلك، لا بد من التوضيح أن “المناطق الآمنة” التي يجري الحديث عنها اليوم ليست مناطق آمنة بالمعنى الذي كان يتوخّاه السوريون لتجنيبهم القصف بالطائرات، بل هي مجرّد تقاسم مناطق نفوذ إقليمي، أي انتزاع أجزاء من سيادة الدولة السورية بهدف حماية حدود الدول التي تنشئها، وتحويل المنطقة كدرع بشري في مواجهة النظام السوري تحت حكم مجموعات عسكرية تابعة لتلك الدول الراعية، وهذا الامر لا يقتصر على منطقتي نفوذ إقليمي في الشمال والجنوب، إذ ثمّة منطقة أخرى (مغفلة) في شرق الفرات، حيث وجود قوات للولايات المتحدة التي ترعى “قوات سوريا الديمقراطية”، أي نحن إزاء ثلاث مناطق نفوذ، إضافة إلى مناطق سيطرة النظام مع شريكيه، روسيا وإيران.
الزيارة المتأخرة ست سنوات ونصف سنة لرئيس النظام السوري بشار الأسد لحلب “المستردّة للنظام من الجيش الحر وفق اتفاق روسي تركي منذ ديسمبر/ كانون الأول 2016” يمكن أن تكون جزءاً من تفاهماتٍ على مقايضات يدفع الكرد ثمنها، وينال النظام جائزتها في حلب، ولاحقاً منبج، مقابل انتهاك سيادته جنوباً لإبعاد إيران، وشمالاً لراحة تركيا واستقرار أمنها.
العربي الجديد