قبل أقل من شهرين على الموعد الدستوري الذي يتيح انتخاب رئيس جديد للبنان، تتواصل الأزمة الاقتصادية والمالية الحادة التي تشهدها البلاد منذ خريف عام 2019 من دون مكابح، وإن كان البعض يعول على أن يؤدي انتهاء عهد الرئيس ميشال عون أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وانتخاب رئيس جديد إلى إرساء واقع جديد، خاصة إذا ما ترافق ذلك مع تفاهمات داخلية وخارجية كبرى.
وتنعكس أزمة سعر الصرف التي لم تنجح الجهات المعنية بلجمها، على كل مظاهر الحياة في لبنان وتؤدي لتحليق الأسعار وإفقار المزيد من اللبنانيين الذين لا تزال غالبيتهم العظمى تتقاضى رواتبها بالليرة اللبنانية التي فقدت أكثر من 90 في المائة من قيمتها. فبعدما كان سعر صرف الدولار في عام 2016 حينما انتخب عون رئيسا 1500 ليرة للدولار الواحد، بات يتراوح ما بين 28 ألف ليرة و30 ألفاً. ويُجمع الخبراء على مجموعة عوامل اقتصادية وسياسية مسؤولة عن الانهيار، ويتحدثون عن تراكمات ونظام فاسد قائم على المحاصصة الطائفية، إضافة لسياسات مالية بغطاء سياسي غير صحيحة أدت للانهيار.
ورغم ذلك يعتبر القيادي العوني السابق المحامي أنطوان نصر الله أن «عون يتحمل جزءا من مسؤولية الانهيار من خلال عدم امتلاكه لأي خطة لإدارة الأزمة والخروج منها، فمثلا لم تكن لديه رؤية للتعامل مع الواقع الجديد بعد قرار التخلف عن دفع سندات اليوروبوندز، كما أنه غطى سياسة الدعم العشوائي التي أدت لنفاذ احتياطيات مصرف لبنان، أضف أنه لم يكن له سياسة خارجية واضحة رغم أن وزراء الخارجية كانوا محسوبين عليه». ويضيف في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «كما أن رفع تعريفة الاتصالات كان يجب أن يحصل قبل الانتخابات النيابية، لكنه تقرر أن يحصل بعد ذلك بتوافق سياسي عريض كان عون جزءا منه خوفا من أن يؤثر قرار كهذا على شعبيتهم».
ويشير نصر الله إلى أن «المرسوم الذي صدر مؤخرا وأعطى مساعدات مالية لجمعيات خيرية وكأن الدنيا بألف خير، بدا واضحا أنه وضع على أساس محاصصة سياسية مكشوفة، من دون أن ننسى المسؤوليات التي يتحملها عون وفريقه السياسي لعدم إنجاز أي إصلاحات تذكر رغم امتلاكهما أكبر كتلتين نيابية ووزارية وعرقلة تشكيل الحكومة أكثر من مرة ليس بسبب خلاف على مشروع سياسي إنما بسبب صراع على الحصص». ويتابع: «قبل انتخابه كان العماد عون يردد: انتخبوني وأنا أتعب وأنتم ترتاحون ولكن ما حصل هو العكس تماما».
ورغم أن الأزمة انفجرت في عام 2019 بعد انتفاضة 17 أكتوبر الشعبية، يؤكد الخبراء أن شرارتها بدأت بالظهور قبل ذلك بكثير. وتقول الباحثة في الشأنين الاقتصادي والمالي والأستاذة الجامعية الدكتورة ليال منصور إن «كل المحللين الاقتصاديين والماليين كانوا يدركون أن لبنان مقبل على أزمة اقتصادية كبيرة، فحتى المواطن العادي المتابع لتقارير صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كان يدرك أننا سنصل إلى ما وصلنا إليه»، متحدثة لـ«الشرق الأوسط» عن «عدة مؤشرات كانت تؤكد أن لبنان يلفظ أنفاسه الأخيرة، أبرزها الفائدة المرتفعة على الودائع في المصارف والتي كانت تؤكد أن حالة البلد غير جيدة وغير مستقرة خاصة أنها لامست الـ16 في المائة. كما أن احتياطي الدولار نسبة للودائع الأجنبية كان يوحي أن الوضع غير طبيعي خاصة أن الاحتياطي لم يكن صافيا وكان عبارة عن ديون». وتضيف «إلى ذلك فإن كل تقارير البنك الدولي كانت تحذر من الانهيار في حال عدم السير بالإصلاحات، كما أن كون 50 في المائة من دين الدولة للمصارف ظاهرة من ظواهر الفقر والتخلف التي نشهدها عادة في أفقر البلدان».
وتعتبر منصور أن «الهندسات المالية التي حصلت في العام 2016 هي المؤشر الأول لانطلاق شرارة الأزمة، حيث إن المعنيين بالوضع المالي كانوا يسعون من خلالها لإعطاء جرعات أكسجين صناعي للبلد بتكلفة عالية جدا».
ولعل أخطر ما تؤكده منصور هو أن الانهيار الفعلي لم يبدأ بعد، لافتة إلى «لا نزال في مرحلة تقديم المقبلات». وتضيف «يبدأ الانهيار الفعلي بالاعتراف بمصير الودائع. الأزمة شديدة وقوية وأزمة سعر الصرف لا تشبه أي أزمة أخرى؛ إذ لا تحتمل معالجة على حدة». مضيفة «للأسف نتوقع الأسوأ وأن يبقى لبنان لسنوات يعتمد على الأموال والقروض الخارجية، وأن تتلاشى تلقائيا الطبقة الوسطى».
ويشهد لبنان انهياراً اقتصادياً غير مسبوق صنفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ منتصف القرن الماضي يترافق مع تفكك الركائز الرئيسية لنموذج الاقتصاد السياسي السائد في البلاد منذ انتهاء الحرب الأهلية ويتجلَى بشكل أساسي في انهيار الخدمات العامة الأساسية.
وانحدر نحو 80 في المائة من اللبنانيين تحت خط الفقر مع اشتداد الأزمة. وبحسب تقرير صدر مؤخرا عن المقرر الخاص المعني بمسألة الفقر المدقع وحقوق الإنسان في الأمم المتحدة أوليفييه دي شوتر حول لبنان، «يجد تسعة من كل عشرة أشخاص صعوبة في الحصول على دخل، وما يزيد على ستة أشخاص من كل عشرة سيغادرون البلد لو استطاعوا إلى ذلك سبيلاً».
أما معدل البطالة الرسمي في لبنان فارتفع نحو ثلاثة أضعاف على وقع الانهيار الاقتصادي الذي يعصف بالبلاد، وفق مسح جديد أجرته الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة وتم نشر نتائجه قبل فترة قصيرة. وأشارت إدارة الإحصاء المركزية في لبنان ومنظمة العمل الدولية في بيان صحافي إلى ارتفاع معدل البطالة في لبنان من 11.4 في المائة في الفترة الممتدة بين عامي 2018 و2019 إلى 29.6 في المائة في يناير (كانون الثاني) الماضي.
وأدى كل ما سبق تلقائيا لارتفاع عدد المهاجرين. وبحسب الشركة «الدولية للمعلومات» وصل عدد المهاجرين والمسافرين في العام 2021 إلى 79.134 شخصا مقارنة بـ17.721 شخصا في عام 2020 أي بارتفاع مقداره 61.413 شخصاً ونسبته 346 في المائة.
ونتيجة استفحال الأزمة بات الوصول إلى المواد الأساسية في البلد صعب المنال سواء لارتفاع أسعارها بشكل كبير أو لفقدانها من السوق. فمثلا ارتفع سعر صفيحة البنزين من 30 ألف ليرة إلى 675 ألفا، ربطة الخبز من 1500 ليرة إلى 13 ألف ليرة، كيلو السكر من 1500 ليرة إلى 35 ألفا، كيلو اللحم من 17 ألفا إلى 300 ألف. وباتت السلة الغذائية التي تحوي المواد الأساسية التي لا يمكن لأي عائلة الاستغناء عنها وتكفيها أقل من شهر تبلغ تكلفتها نحو مليون ونصف مليون ليرة بعدما كانت تبلغ قبل الأزمة أقل من 100 ألف ليرة.
جحيم اللبنانيين لا يقتصر على كل ما سبق إنما يقوم بشكل أساسي على تداعي الخدمات العامة نتيجة شح الأموال والاحتياطات. إذ يؤدي فقدان الفيول لانقطاع متواصل للتيار الكهربائي بحيث تقتصر التغذية الكهربائية في كثير من الأحيان على ساعة واحدة في الـ24 ساعة، وهو ما يؤثر على كل الخدمات الأخرى من مياه واتصالات، وعلى كل القطاعات التي باتت تشهد أزمات وجودية.
ويعتبر الخبير المالي والاقتصادي وليد أبو سليمان أنه «من غير الطبيعي أن ينقلب الوضع خلال ثلاث سنوات رأساً على عقب، ولكنه ليس بالأمر المستحيل أيضاً، كون اقتصادنا صغير الحجم ويمكن بالمقابل تسجيل نمو سريع إذا طبقنا الإصلاحات المرجوة» لافتا في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «العودة إلى مستويات حيث الناتج المحلي بحجم 50 مليار وما فوق، تحتاج إلى أكثر من ثلاث سنوات، باعتبار أن الالتزام بالإصلاحات السابق ذكرها يسمح لنا بتسجيل فائض في الموازنة ما قد يؤدي إلى بحبوحة، وطبعاً الدفع باتجاه النمو ويرفع من مداخيل الدولة والخزينة العامة، الذي سينعكس بدوره إيجاباً على السياسات الاجتماعية التي تعتمدها الحكومات». ويتحدث أبو سليمان عن «نماذج وتجارب جديرة بالملاحظة، في طليعتها قبرص التي شهدت تعثراً في عام 2013 ثم عادت وخرجت في عام 2017 من محنتها وتمكنت من دخول الأسواق العالمية لتستدين بمعدلات فوائد منخفضة جداً. وذلك يعود إلى التزامها بالإصلاحات المطلوبة منها، سواء على صعيد القطاع المصرفي، وخصوصا المصرفين اللذين شهدا تعثراً، أو على الصعيد الاقتصادي».
ويشدد أبو سليمان على أن «لا سبيل للخروج من الأزمة الراهنة إلا من خلال تطبيق خطة التعافي، وإعادة الهيكلة على مستوى الإدارات العامة، وفي طليعتها مؤسسة كهرباء لبنان، والمرافق التي بمقدورها تأمين موارد للخزينة العامة، وإعادة هيكلة الدين العام والمصرف المركزي والمصارف التجارية»، مشيرا إلى أنه «إذا استمر الوضع على ما هو عليه، بلا أي إجراءات إصلاحية جذرية، سيزداد الوضع سوءاً بعدما تخطت نسبة الفقر الـ85 في المائة، وقد يؤدي إلى انفجار اجتماعي».
الشرق الأوسط