رغم مرور أكثر من 16 شهرا علي انتهاء ولاية الرئيس اللبناني ميشيل سليمان، فإن هذه الفترة كانت مرشحة للاستمرار ربما دون سقف محدد. غير أن أزمة طارئة “غير سياسية” حركت المياه الراكدة في هذا الملف، وتسببت في هزة عنيفة للوضع الداخلي اللبناني بشكل عام إلي حد تجدد دعوات قديمة، كانت قد تراجعت منذ سنوات، لمراجعة اتفاق “الطائف”، وإعادة النظر في نظام المحاصصة الطائفية التي تحكم الحياة السياسية في لبنان دستوريا وعمليا.
وفي العراق، تصاعدت حالة التذمر الشعبي، والتململ السياسي من استمرار الأوضاع السابقة، وإعادة إنتاج السياسات ذاتها، وفق المعادلات نفسها، مما دفع رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، إلي إعلان إجراءات محددة لمواجهة أسباب التذمر والتوتر، وعلي رأسها تدهور الخدمات العامة، والفساد الحكومي، والترهل الإداري، والطائفية السياسية والمؤسسية، فضلا عن الفراغ الأمني الذي يمتد من الأمن الشخصي للمواطن العراقي إلي العجز عن حماية السيادة والأرض العراقية في مواجهة “الدولة الإسلامية”، المعروفة إعلاميا باسم “داعش”.
ذلك الاضطراب، الذي تفجر فجأة في لبنان والعراق، يدعو إلي التأمل والانتباه، حيث يختلف في أسبابه وأبعاده عن حالات التوتر أو الأزمات الداخلية التي تنشب من حين إلي آخر في بعض الدول العربية، سواء من ناحية الأسباب، أو التطورات، وسياقات التفاعل داخلها وحولها، وأيضا نتائجها، وما قد تفضي إليه من نتائج وتداعيات، الأمر الذي يعني أن هاتين الحالتين في لبنان والعراق، قد تمثلان مقدمة لحالات أخري تقتدي بهما، لتبدأ في دول المنطقة موجة من الاحتجاجات الشعبية، لها طابع مختلف، ربما تطرح نموذجا جديدا لمداخل التغيير في العالم العربي.
أسباب ودواعي تلك الاحتجاجات، تعد أبرز عوامل تمايزها. فهي احتجاجات مطلبية خدمية شعبية، مطلبية، إذ تتعلق بمطالب محددة وواضحة، وليس باتجاهات سياسية أو مواقف أيديولوجية. خدمية لتعلق تلك المطالب بنوعية، وكفاءة، وشمولية الخدمات التي تقدمها (أو لا تقدمها) الدولة لمواطنيها. وشعبية إذ ليست مقصورة علي فئة معينة، أو شريحة اجتماعية بعينها، أو حتي بأصحاب فكر معين، أو مؤيدي حزب، أو تيار، أو حتي أبناء منطقة جغرافية دون غيرهم.
ولأن الأمور تتضح بأضدادها، ربما يكون الأسهل القول إن تلك الموجة الجديدة من الاحتجاجات الشعبية، التي بدأت في العراق ولبنان، هي احتجاجات “غير سياسية”، كما أنها -حتي الآن- غير مسيسة، مع التسليم بأن لمردوداتها بعدا سياسيا واضحا، يتعلق بمصير نظام حكم، كما في العراق، أو ربما بمستقبل نظام سياسي كامل، كما في لبنان.
في العراق، خرج الناس إلي الشوارع اعتراضا علي نقص الخدمات العامة، خصوصا الكهرباء والمياه. ففي ظل موجة طقس شديد الحرارة (تجاوزت 50 درجة مئوية)، كان انقطاع الكهرباء، وعدم تشغيل مكيفات الهواء كفيلا بإشعال غضب الشارع العراقي، بعد أن تم إنفاق 60 مليار دولار منذ عام 2003 علي قطاع الكهرباء.
وفي لبنان، يشكو المواطنون، خصوصا في بيروت، من سوء الخدمات بشكل عام، وتفاقم مشكلة القمامة بصفة خاصة. فكان من شأن اللجوء الحكومي إلي طمر القمامة في أماكن غير صالحة وغير كافية إلي استثارة ردود فعل غاضبة، ليس تجاه الحكومة الحالية علي وجه الحصر، لكن تجاه الطبقة السياسية بشكل عام. وهكذا، لم يرفع المتظاهرون أو المعترضون مطالب سياسية، أو شعارات ثورية، لكن المطالب الخدمية والأسباب غير السياسية كانت أشد تأثيرا في السلطة، وأكثر إحراجا للساسة، علي اختلاف انتماءاتهم وتعدد انقساماتهم.
ومن السمات المميزة لتلك الموجة الجديدة من الاحتجاجات الشعبية أنها تحظي بتأييد شعبي داخلي عابر للانقسامات، سواء الطائفية، أو السياسية، أو حتي الديموغرافية. وكان هذا واضحا في الاحتجاجات العراقية بصفة خاصة، حيث شاركت فيها مختلف الشرائح العمرية، كما تلقفتها القوي، والتنظيمات، والتيارات السياسية المختلفة، سواء عن اقتناع بمطالبها، أو كانتهازية سياسية. ولم تكن المؤسسات والرموز الدينية بعيدة عن المشهد، فكان موقفها التأييد العلني من جانب المرجع الشيعي علي السيستاني. في لبنان، لم تتضح تركيبة المحتجين سياسيا أو طائفيا، مما يشير بذاته إلي غلبة الهوية الوطنية علي تلك الطائفية. غير أن الانقسام الطائفي والاحتقان السياسي سرعان ما دخلا علي خط الأزمة بواسطة القوي السياسية والدينية.
وعلي خلاف ما اتسمت به الاحتجاجات من شمول وتذويب للهويات الضيقة، كان لافتا أن الطبقة السياسية، سواء الحاكمة أو المعارضة، في لبنان والعراق، اتبعت التسلسل التقليدي نفسه الذي أثبت فشله من قبل في حماية نظم، وإبقاء حكام: تجاهل، واستهانة، ثم تشكيك في دوافع وأهداف المحتجين، ومن ثم تعامل بالغشم الأمني المعتاد في حالات وبلدان كهذه، وأخيرا اضطرار إلي التراجع، واسترضاء المحتجين، بعد أن يكاد الوضع يخرج عن السيطرة. ولو أن مؤسسة، أو جهة، أو حتي مسئولا واحدا أبدي تفهمه للاحتجاجات من البداية، وتبناها، أو دافع عنها، لصار زعيما، وغير المعادلة السياسية ككل. لكن بدلا من اقتناص هذه الاحتجاجات، وتوظيفها سياسيا وإعلاميا بذكاء، والاستفادة من دروس “الربيع العربي”، فإن تعاطي الساسة (رسميين وغير رسميين) مع تلك الموجة “المختلفة” لم يختلف.
ما يدعو إلي التنبؤ بأن تنتقل تلك الحالة الجديدة من الاحتجاج إلي دول أخري، وربما تحولها إلي نموذج ونمط ثوري جديد، أن أسباب الاحتجاج والغضب الشعبي في لبنان والعراق قائمة ومتجذرة في بلدان أخري، بل ربما بصورة أقوي في بعض الحالات، خصوصا ما يتصل بتردي الخدمات العامة، وتحالف الفساد مع الاستبداد علي حساب المواطن الذي يعاني تدهورا حادا في الأحوال المعيشية، فضلا عن تدني مستوي الدخل، والتعليم، وتكافؤ الفرص، مقارنة بالتضخم، والبطالة، والمحسوبية. غير أن انتقال النموذج، أو انتشار ذلك النمط، يستلزم توافر حزمة شروط ومقومات، منها وصول القصور – أو بالأحري التقصير – في الأداء الحكومي إلي حد يمس شرائح مختلفة من الشعب دون تمييز، مع امتلاك مجموعات أو أعداد مناسبة من تلك الشرائح جرأة التفكير، وديناميكية التنفيذ اللازمين للانتفاض والخروج إلي الشارع. وعلي خلاف موجة ثورات واحتجاجات 2011، سيكون هذا النموذج الجديد محصنا -نسبيا- في مواجهة القصف السياسي والإعلامي. فغياب الدافع السياسي، والطابع الخدمي المعيشي الغالب عليها يجعل من العسير علي النظم الحاكمة، والإعلام الموالي إطلاق الاتهامات التقليدية بالتآمر، والعمالة، والسعي إلي التخريب، وإسقاط الدولة. غير أن هذا يعني ضرورة استمرار “عدم التسييس” في الدوافع والمطالب، والحرص علي عدم دخول أطراف أخري علي الخط، سواء كانت أطرافا خارجية مباشرة، أو قوي داخلية لها امتدادات وارتباطات خارجية.
الفرصة الكبري أمام هذا النمط الاحتجاجي، والتي قد تسمح له بالتحول إلي نموذج ثوري جديد، وليس مجرد موجة احتجاجية نوعية، أنه يتعلق بقضايا وأوضاع تراكمت علي مدي عقود، مما يضع الحكومات والحكام في مأزق حرج، يستحيل استباقه بتصحيح للأوضاع يحتاج إلي سنوات، وتغييرات هيكلية لا موارد لها ولا إرادة، وتصعب معالجته بوعود مؤقتة، أو إصلاحات، وإجراءات شكلية.
سامح راشد
مجلة السياسة الدولية