نموذج جديد للاحتجاجات الشعبية

نموذج جديد للاحتجاجات الشعبية

2015-635828550014547475-454
رغم مرور أكثر من‮ ‬16‮ ‬شهرا علي انتهاء ولاية الرئيس اللبناني ميشيل سليمان، فإن هذه الفترة كانت مرشحة للاستمرار ربما دون سقف محدد‮. ‬غير أن أزمة طارئة‮ “‬غير سياسية‮” ‬حركت المياه الراكدة في هذا الملف،‮ ‬وتسببت في هزة عنيفة للوضع الداخلي اللبناني بشكل عام إلي حد تجدد دعوات قديمة، كانت قد تراجعت منذ سنوات، لمراجعة اتفاق‮ “‬الطائف‮”‬،‮ ‬وإعادة النظر في نظام المحاصصة الطائفية التي تحكم الحياة السياسية في لبنان دستوريا وعمليا‮.‬

وفي العراق، تصاعدت حالة التذمر الشعبي،‮ ‬والتململ السياسي من استمرار الأوضاع السابقة، وإعادة إنتاج السياسات ذاتها،‮ ‬وفق المعادلات نفسها،‮ ‬مما دفع رئيس الوزراء العراقي،‮ ‬حيدر العبادي،‮ ‬إلي إعلان إجراءات محددة لمواجهة أسباب التذمر والتوتر، وعلي رأسها تدهور الخدمات العامة،‮ ‬والفساد الحكومي،‮ ‬والترهل الإداري،‮ ‬والطائفية السياسية والمؤسسية،‮ ‬فضلا عن الفراغ‮ ‬الأمني الذي يمتد من الأمن الشخصي للمواطن العراقي إلي العجز عن حماية السيادة والأرض العراقية في مواجهة‮ “‬الدولة الإسلامية‮”‬،‮ ‬المعروفة إعلاميا باسم‮ “‬داعش‮”.‬
ذلك الاضطراب،‮ ‬الذي تفجر فجأة في لبنان والعراق، يدعو إلي التأمل والانتباه،‮ ‬حيث يختلف في أسبابه وأبعاده عن حالات التوتر أو الأزمات الداخلية التي تنشب من حين إلي آخر في بعض الدول العربية،‮ ‬سواء من ناحية الأسباب، أو التطورات،‮ ‬وسياقات التفاعل داخلها وحولها، وأيضا نتائجها،‮ ‬وما قد تفضي إليه من نتائج وتداعيات،‮ ‬الأمر الذي يعني أن هاتين الحالتين في لبنان والعراق، قد تمثلان مقدمة لحالات أخري تقتدي بهما،‮ ‬لتبدأ في دول المنطقة موجة من الاحتجاجات الشعبية، لها طابع مختلف،‮ ‬ربما تطرح نموذجا جديدا لمداخل التغيير في العالم العربي‮.‬
أسباب ودواعي تلك الاحتجاجات، تعد أبرز عوامل تمايزها‮. ‬فهي احتجاجات مطلبية خدمية شعبية، مطلبية،‮ ‬إذ تتعلق بمطالب محددة وواضحة،‮ ‬وليس باتجاهات سياسية أو مواقف أيديولوجية‮. ‬خدمية لتعلق تلك المطالب بنوعية،‮ ‬وكفاءة،‮ ‬وشمولية الخدمات التي تقدمها‮ (‬أو لا تقدمها‮) ‬الدولة لمواطنيها‮. ‬وشعبية إذ ليست مقصورة علي فئة معينة،‮ ‬أو شريحة اجتماعية بعينها،‮ ‬أو حتي بأصحاب فكر معين،‮ ‬أو مؤيدي حزب،‮ ‬أو تيار،‮ ‬أو حتي أبناء منطقة جغرافية دون‮ ‬غيرهم‮.‬
ولأن الأمور تتضح بأضدادها، ربما يكون الأسهل القول إن تلك الموجة الجديدة من الاحتجاجات الشعبية،‮ ‬التي بدأت في العراق ولبنان، هي احتجاجات‮ “‬غير سياسية‮”‬، كما أنها‮ -‬حتي الآن‮- ‬غير مسيسة،‮ ‬مع التسليم بأن لمردوداتها بعدا سياسيا واضحا، يتعلق بمصير نظام حكم،‮ ‬كما في العراق، أو ربما بمستقبل نظام سياسي كامل،‮ ‬كما في لبنان‮.‬
في العراق، خرج الناس إلي الشوارع اعتراضا علي نقص الخدمات العامة،‮ ‬خصوصا الكهرباء والمياه‮. ‬ففي ظل موجة طقس شديد الحرارة‮ (‬تجاوزت‮ ‬50‮ ‬درجة مئوية‮)‬، كان انقطاع الكهرباء،‮ ‬وعدم تشغيل مكيفات الهواء كفيلا بإشعال‮ ‬غضب الشارع العراقي،‮ ‬بعد أن تم إنفاق‮ ‬60‮ ‬مليار دولار منذ عام‮ ‬2003‮ ‬علي قطاع الكهرباء‮.‬
وفي لبنان، يشكو المواطنون،‮ ‬خصوصا في بيروت، من سوء الخدمات بشكل عام، وتفاقم مشكلة القمامة بصفة خاصة‮. ‬فكان من شأن اللجوء الحكومي إلي طمر القمامة في أماكن‮ ‬غير صالحة وغير كافية إلي استثارة ردود فعل‮ ‬غاضبة،‮ ‬ليس تجاه الحكومة الحالية علي وجه الحصر، لكن تجاه الطبقة السياسية بشكل عام‮. ‬وهكذا،‮ ‬لم يرفع المتظاهرون أو المعترضون مطالب سياسية،‮ ‬أو شعارات ثورية، لكن المطالب الخدمية والأسباب‮ ‬غير السياسية كانت أشد تأثيرا في السلطة،‮ ‬وأكثر إحراجا للساسة،‮ ‬علي اختلاف انتماءاتهم وتعدد انقساماتهم‮.‬
ومن السمات المميزة لتلك الموجة الجديدة من الاحتجاجات الشعبية أنها تحظي بتأييد شعبي داخلي عابر للانقسامات،‮ ‬سواء الطائفية،‮ ‬أو السياسية،‮ ‬أو حتي الديموغرافية‮. ‬وكان هذا واضحا في الاحتجاجات العراقية بصفة خاصة، حيث شاركت فيها مختلف الشرائح العمرية،‮ ‬كما تلقفتها القوي،‮ ‬والتنظيمات،‮ ‬والتيارات السياسية المختلفة، سواء عن اقتناع بمطالبها،‮ ‬أو كانتهازية سياسية‮. ‬ولم تكن المؤسسات والرموز الدينية بعيدة عن المشهد،‮ ‬فكان موقفها التأييد العلني من جانب المرجع الشيعي علي السيستاني‮. ‬في لبنان، لم تتضح تركيبة المحتجين سياسيا أو طائفيا، مما يشير بذاته إلي‮ ‬غلبة الهوية الوطنية علي تلك الطائفية‮. ‬غير أن الانقسام الطائفي والاحتقان السياسي سرعان ما دخلا علي خط الأزمة بواسطة القوي السياسية والدينية‮.‬
وعلي خلاف ما اتسمت به الاحتجاجات من شمول وتذويب للهويات الضيقة، كان لافتا أن الطبقة السياسية،‮ ‬سواء الحاكمة أو المعارضة، في لبنان والعراق،‮ ‬اتبعت التسلسل التقليدي نفسه الذي أثبت فشله من قبل في حماية نظم،‮ ‬وإبقاء حكام‮: ‬تجاهل،‮ ‬واستهانة، ثم تشكيك في دوافع وأهداف المحتجين، ومن ثم تعامل بالغشم الأمني المعتاد في حالات وبلدان كهذه،‮ ‬وأخيرا اضطرار إلي التراجع،‮ ‬واسترضاء المحتجين، بعد أن يكاد الوضع يخرج عن السيطرة‮. ‬ولو أن مؤسسة،‮ ‬أو جهة،‮ ‬أو حتي مسئولا واحدا أبدي تفهمه للاحتجاجات من البداية،‮ ‬وتبناها،‮ ‬أو دافع عنها، لصار زعيما،‮ ‬وغير المعادلة السياسية ككل‮. ‬لكن بدلا من اقتناص هذه الاحتجاجات،‮ ‬وتوظيفها سياسيا وإعلاميا بذكاء، والاستفادة من دروس‮ “‬الربيع العربي‮”‬،‮ ‬فإن تعاطي الساسة‮ (‬رسميين وغير رسميين‮) ‬مع تلك الموجة‮ “‬المختلفة‮” ‬لم يختلف‮.‬
ما يدعو إلي التنبؤ بأن تنتقل تلك الحالة الجديدة من الاحتجاج إلي دول أخري، وربما تحولها إلي نموذج ونمط ثوري جديد،‮ ‬أن أسباب الاحتجاج والغضب الشعبي في لبنان والعراق قائمة ومتجذرة في بلدان أخري،‮ ‬بل ربما بصورة أقوي في بعض الحالات،‮ ‬خصوصا ما يتصل بتردي الخدمات العامة، وتحالف الفساد مع الاستبداد علي حساب المواطن الذي يعاني تدهورا حادا في الأحوال المعيشية،‮ ‬فضلا عن تدني مستوي الدخل،‮ ‬والتعليم،‮ ‬وتكافؤ الفرص،‮ ‬مقارنة بالتضخم،‮ ‬والبطالة،‮ ‬والمحسوبية‮. ‬غير أن انتقال النموذج،‮ ‬أو انتشار ذلك النمط، يستلزم توافر حزمة شروط ومقومات، منها وصول القصور‮ – ‬أو بالأحري التقصير‮ – ‬في الأداء الحكومي إلي حد يمس شرائح مختلفة من الشعب دون تمييز،‮ ‬مع امتلاك مجموعات أو أعداد مناسبة من تلك الشرائح جرأة التفكير،‮ ‬وديناميكية التنفيذ اللازمين للانتفاض والخروج إلي الشارع‮. ‬وعلي خلاف موجة ثورات واحتجاجات‮ ‬2011،‮ ‬سيكون هذا النموذج الجديد محصنا‮ -‬نسبيا‮- ‬في مواجهة القصف السياسي والإعلامي‮. ‬فغياب الدافع السياسي،‮ ‬والطابع الخدمي المعيشي الغالب عليها يجعل من العسير علي النظم الحاكمة،‮ ‬والإعلام الموالي إطلاق الاتهامات التقليدية بالتآمر،‮ ‬والعمالة،‮ ‬والسعي إلي التخريب،‮ ‬وإسقاط الدولة‮. ‬غير أن هذا يعني ضرورة استمرار‮ “‬عدم التسييس‮” ‬في الدوافع والمطالب،‮ ‬والحرص علي عدم دخول أطراف أخري علي الخط، سواء كانت أطرافا خارجية مباشرة،‮ ‬أو قوي داخلية لها امتدادات وارتباطات خارجية‮.‬
الفرصة الكبري أمام هذا النمط الاحتجاجي، والتي قد تسمح له بالتحول إلي نموذج ثوري جديد،‮ ‬وليس مجرد موجة احتجاجية نوعية، أنه يتعلق بقضايا وأوضاع تراكمت علي مدي عقود،‮ ‬مما يضع الحكومات والحكام في مأزق حرج،‮ ‬يستحيل استباقه بتصحيح للأوضاع يحتاج إلي سنوات،‮ ‬وتغييرات هيكلية لا موارد لها ولا إرادة، وتصعب معالجته بوعود مؤقتة،‮ ‬أو إصلاحات،‮ ‬وإجراءات شكلية‮.‬
سامح راشد
مجلة السياسة الدولية