الطائرة الروسية والصدمات المصرية

الطائرة الروسية والصدمات المصرية

0__18835304_403_00
حتى لو أثبتت التحقيقات أن وراء الحادث عملا إرهابيا، هل المسألة تحتاج إلى تعاطف مع مصر أم وضع رقبتها تحت المقصلة.

دعك من النتيجة التي ستكشف عنها عملية تحليل الصندوقيْن الأسوديْن للطائرة الروسية التي سقطت في سيناء الأسبوع الماضي، ودعك من الإشارات والإجراءات البريطانية والأميركية والروسية وغيرها، التي رجّحت سيناريو العمل الإرهابي للسقوط، ودعك أيضا من التصريحات المضادة التي طالبت بالتروي، وما صاحبها من تلميحات بوجود مؤامرة غربية على مصر.
لنترك كل هذه العناوين الصاخبة، ونتوقف عند التداعيات الخطيرة التي سوف يخلّفها الحادث على المدى البعيد، والذي لم يكن الأول ولن يكون الأخير، فقد شهدت دول كبيرة حوادث طيران أشد بشاعة، أهمها خطف ثلاث طائرات أميركية في سبتمبر 2011، استهدفت برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك، والثالثة ذهبت إلى مبنى البنتاغون.
ولا تزال هناك ألغاز تحيط بالفاجعة، مع ذلك انصب حديث العالم على التعاطف مع الولايات المتحدة، ولم يتوقف كثيرون عند التراخي والتقاعس، الذي أفضى إلى العملية الإرهابية الكبيرة، ولم نسمع مطالبات أو صيحات بوقف الطيران إلى الولايات المتحدة، كالتي صاحبت الطائرة الروسية التي سقطت في صحراء سيناء، وسيول الاتهامات التي وجّهت إلى مصر، لأسباب أمنية لم تخل من دلالات سياسية، لأن الحادث بدأ يخرج عن سياقه الإنساني، ويتخذ سياقا بعيدا، قبل أن تتكشف جميع التفاصيل.
وحتى لو أثبتت التحقيقات أن وراء الحادث عملا إرهابيا، هل المسألة تحتاج إلى تعاطف مع مصر أم وضع رقبتها تحت المقصلة؟ ولماذا لم يحدث ذلك مع عمليات إرهابية لا تقل خطورة عن حادث سقوط الطائرة الروسية في مصر ذاتها، مثل مصرع سياح مكسيكيين في الصحراء الغربية قبل شهرين، عن طريق الخطأ على يد جهاز الأمن المصري، وقائمة طويلة من العمليات الإرهابية وقعت في الأقصر وشرم الشيخ ودهب وطابا والقاهرة وكثير من المدن المصرية.
في تقديري يجب التفتيش عن الأجواء السياسية وخارطة التفاعلات الإقليمية والدولية، التي تلعب دورا مهما في هذه الانتقائية، يصلح أن يكون مدخلا للتفسير، فالهستيريا السياسية والإعلامية، التي اتجهت نحو مصر، ليست ببعيدة عن تصورات ومواقف القاهرة حيال عدد من القضايا الساخنة في المنطقة.
وبصرف النظر عن صحة أو خطأ سيناريو سقوط الطائرة جراء عمل إرهابي من عدمه، كانت مصر مهيأة للتعرض إلى مزيد من الضغوط، لكسر إرادتها، لأن تعافيها سياسيا وصحوتها إقليميا، يمكن أن يحرجا دولا كثيرة، وكان من الضروري أن تأتي ضربة حقيقية، ذات أبعاد معقدة، إنسانية وأمنية واقتصادية وسياسية، فقط يتم توظيفها لتكون سيفا مسلطا، يكبح أي رغبة لدى قيادتها للتمدد في المنطقة، وعدم التبشير بتحالفات قد تقلب بعض التوازنات.
وعندما تأتي الضربة في مجال مثل الطيران تكون أشد قسوة، لأن سيناريو العمل الإرهابي أصبح مرجحا في قناعات جهات كثيرة، وإثبات عكسه مسألة تحتاج لوقت طويل، فمعروف أن التحقيقات في حوادث الطيران تستغرق سنوات، وقد تذهب طي النسيان، دون أن يتم التعرف على أسبابها.
وربما يكون حادث الطائرة الأميركية التابعة لشركة “بان أميركان” فوق لوكربي في اسكتلندا عام 1988، أبرز النماذج على المساومات والمناورات الغربية، والتي اتهم النظام الليبي بالتآمر لإسقاطها، وجرى غض الطرف عن جهات أخرى (إيران مثلا)، ورغم الغموض الذي اكتنف، ولا يزال، هذا الحادث، إلا أنه تحول إلى شماعة للنيل من نظام العقيد الليبي معمر القذافي، حتى سنوات قليلة قبل رحيله، وانتهى الأمر بصفقة سياسية وتعويضات مادية ضخمة.
من هنا تأتي الصدمة الأولى، والخوف من السباق المبكر لترجيح كفة سيناريو العمل الإرهابي، لتصوير أن مصر غير قادرة على مواجهة الإرهاب بمفردها، فيتم فتح المجال لفكرة التدخل الدولي في سيناء أو لحماية السائحين، والضغط لانكماش مصر على همومها الداخلية، وعدم مد أنفها أكثر من اللازم، في سوريا وليبيا والخليج العربي مثلا.
أما الصدمة الثانية، فهي تكمن في المفاجأة الثقيلة التي فجرتها روسيا، بميلها إلى خيار العمل الإرهابي، بعد إعلانها وقف رحلاتها الجوية لمصر، وقد اتخذت موقفا أشد تطرفا من بريطانيا، التي حظي ديفيد كاميرون رئيس وزرائها بعتاب سابق من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بسبب إعلان الأول وقف رحلات طيران بلاده إلى شرم الشيخ فقط، لعدم ثبوت العمل الإرهابي، ولم يمر سوى يوم واحد، واتخذت موسكو موقفا أكثر تطرفا، وهو ما خلف جرحا عميقا لدى القاهرة، التي تطورت علاقاتها مع روسيا مؤخرا.
مؤكد أن الموقف الروسي اتخذ بناء على معطيات مقنعة، غير أنه عزز الموقف الغربي، ومنح مصداقية لسيناريو العمل الإرهابي ووضع مصر بين فكي كماشة، بين دول غربية تملك استعدادا ظاهرا للتوظيف السياسي لحادث الطائرة، وبين اهتزاز محتمل في العلاقة مع الحليف الروسي، الذي أسرع بإعلان موقفه قبل ظهور نتائج التحقيقات لتخفيف الضغوط الداخلية عن كاهل قيادته السياسية والأمنية، لكنه جعل قنواته مفتوحة مع القاهرة، عندما استدرك أنه لا يملك دليلا على وجود عمل إرهابي.
تجمّعت مجموعة من الخيوط الدقيقة، لتكبّل حركة مصر، وتدحض الروايات التي تكاتف فيها، حلفاء وأصدقاء وأعداء ومغرضين، وتخلق حالة ضاغطة على النظام المصري، قد تجبره في النهاية على إعادة النظر في حساباته وتقديراته الخارجية، في وقت تتفاقم فيه مشاكله الداخلية، بما يجعل التطلع لطموحات إقليمية ضرب من الرفاهية غير المحببة.
من هذه الزاوية، تأتي الطامة أو الصدمة الاقتصادية، التي خلفتها الطائرة الروسية، فمن المتوقع أن يتعرض الموسم السياسي لضربة موجعة، ليس للنضوب المنتظر للسياحة الروسية التي شهدت انتعاشا لافتا، لكن أيضا لأن تأثيرات الحادث، سوف تمتد لحركة السياحة في غالبية المدن المصرية، ما يفضي إلى تداعيات اقتصادية قاتمة، تضاف إلى أزمة انخفاض مرور السفن في قناة السويس، والتي علم من جهات أمنية أن وراءها دول كبرى، ضمن محاولات التضييق المتعددة الذي تتعرض لها مصر.
بالرغم من الفروق الجوهرية في التطورات والبيئة السياسية والشخصية وغيرها، بين الرئيس عبدالفتاح السيسي والرئيس الراحل جمال عبدالناصر، إلا أنني أميل نحو تفسير ما يحدث بأنه عملية تشبه سحب التمويل الدولي لبناء السد العالي عام 1956، ومحاولة كسر عظم السيسي من جانب قوى غربية حاولت من قبل كسر إرادة عبدالناصر، وبقية القصة معروفة، لكن اعتقادي بأن استيعاب السيسي للدروس يمكن أن يقيه النتائج السلبية التي تعرض لها عبدالناصر.
محمد أبو فضل
صحيفة العرب اللندنية