الرئيس المصري يسعى لمتابعة علاقات بلاده مع أوروبا وتدعميها وسط تخوفات من صعود أسماء جديدة وما قد يتبعه من برود، خاصة أن السيسي نجح في بناء علاقات شخصية مباشرة مع الزعماء الأوروبيين وبعضهم رحل مثل المستشارة الألمانية والرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبعضهم في طريقه إلى الخروج من رئيس الوزراء البريطاني، والبعض الآخر في وضع صعب مثل الرئيس الفرنسي.
تشير الزيارة التي يقوم بها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى ألمانيا يومي الأحد والاثنين إلى أن علاقات بلاده لم تعد أثيرة لفترة الرواج التي شهدتها مع برلين في أثناء حكومة أنجيلا ميركل وأنها قادرة على البناء عليها مع خليفتها أولاف شولتس.
وأذاب اللقاء الثنائي الذي عقد بين السيسي والرئيس الأميركي جو بايدن، على هامش قمة جدة السبت، الكثير من الجليد الذي تراكم الفترة الماضية، التي شهدت توترا كبيرا مع انتهاء شهر العسل الذي ساد بين الرئيس المصري ونظيره الأميركي السابق دونالد ترامب، وما أطلقه بايدن من تهديدات للقاهرة.
يحاول السيسي ضبط البوصلة على الساحة الأوروبية مع دولتين مهمّتين، هما بريطانيا وفرنسا، ومنع حدوث اهتزاز فيهما، حيث يرحل رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون ويأتي زعيم آخر يخلفه الفترة المقبلة، ويواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وضعا سياسيا حرجا مع اهتزاز مكانة حزبه في البرلمان وقد يصبح بطة عرجاء بما يحد من قدرته على إظهار قوته في بعض القضايا الخارجية.
عندما صعد الرئيس السيسي إلى سدة السلطة منذ ثمانية أعوام واجه صعوبات عديدة على الساحة الغربية التي لم يعترف البعض من قادتها بالثورة الشعبية التي أسقطت حكم جماعة الإخوان وشجبوا دعم الجيش لهذه الثورة واعتبروها “انقلابا عسكريا”.
نجح السيسي خلال سنوات قليلة في التغلب على جزء كبير من التحديات بعد أن نسج شبكة قوية من العلاقات مع عدد قادة بعض الدول الغربية أسهمت جميعها في تخفيف الضغوط على الدولة المصرية وجرى طيّ مفردات سلبية عدة استخدمت في وصف نظامها الجديد، معتمدا على أربعة زعماء مثلوا ركائز لمصر، وهم زعماء الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا، فضلا عن زعيم الكرملين فلاديمير بوتين.
استوعب الرئيس المصري مفردات القاموس الفعّال في إدارة العلاقات الدولية بصورة سريعة كي يتمكن من إطفاء الحرائق التي نشبت وهو لا يزال يخطو أولى خطواته عقب وصوله إلى السلطة، لافتا إلى الدور الحيوي الذي تمثله المصالح المتبادلة، فعندما غضبت بعض الدول على سقوط حكم الإخوان ولم تقبل بالنظام الجديد في القاهرة كانت غضبتها نابعة من أن مصالحها في المنطقة سوف تتعرض لتهديدات.
حدث الاطمئنان مع كل صفقة عسكرية أو اقتصادية عقدتها القاهرة مع أيّ من الدول الأربع السابقة، ومع كل ليونة سياسية أبداها السيسي في تفهم طبيعة المصالح الغربية كان يزيل عقبة من أمامه، فسلاح الصفقات لعب دورا محوريا في تقويض الكثير من العراقيل التي وضعت في طريقه.
زاد التعاون المشترك في ملفي محاربة الهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب والجماعات المتطرفة من أهمية الرئيس المصري لدى قادة هذه الدول وبدأت العلاقات تأخذ منحى إيجابيا كبيرا مكّن كل طرف من تحقيق أهدافه.
بدت العقبة الكأداء في ملف الحريات وحقوق الإنسان الذي ظل منغصا سياسيا يتفجر من حين إلى آخر بعد أن حولته بعض المنظمات الحقوقية الغربية وأعضاء في برلمانات الدول الأربع إلى وسيلة للضغط على مصر، وأداة لإحراج زعماء هذه الدول، وكان كل منهم يتجاوزه بالطريقة التي تتناسب مع حساباته السياسية.
ضرب ترامب عرض الحائط بملف الحريات وواصل انسجامه مع السيسي إلى مدى بعيد، وحاول كل من جونسون وميركل وماكرون البحث عن طريقة لا تثير غضب المعارضة في دولهم ولا تحرج حليفهم في القاهرة الذي أبدى تعاونا كبيرا معهم في مجالات متعددة مكّنه من تخطي حزمة كبيرة من المشكلات.
يعمل الرئيس المصري حاليا بدأب للحفاظ على شبكة علاقاته الغربية التي توسعت، وتخطي الفجوة التي أحدثها خروج البعض من الزعماء الذين اقترب منهم كثيرا وبدت الأمور معهم مستقرة إلى حد كبير، لا يشوبها التوتر إلا نادرا، ولا يعكر صفوها شيء إلا وجرى إيجاد الوسائل اللازمة لعلاجه.
يعد لقاء السيسي – بايدن في جدة اعترافا صريحا بتراجع الرئيس الأميركي عن جزء معتبر من تصريحاته القاتمة التي أطلقها خلال حملته الانتخابية وبعد نجاحه في السباق الرئاسي، وأن اضطراره إلى الاتصال الهاتفي بالسيسي خلال حرب إسرائيل على غزة في مايو من العام الماضي واعترافه بالدور الذي قامت به القاهرة في وقف إطلاق النار ثم الاجتماع معه في السعودية بمثابة تصويب لما شاب العلاقات من سوء تفاهم.
تشير زيارة السيسي إلى ألمانيا والاجتماع مع شولتس وكبار المسؤولين هناك إلى أن خروج ميركل من السلطة لم يؤثر على متانة العلاقات بين البلدين ولم يحدث فجوة تستدعي إعادة صياغة منظومة العلاقات على أسس مختلفة، وهو ما يمكن تطبيقه في حالة بريطانيا عقب خروج بوريس جونسون من الحكومة، وفي حالة فرنسا في ظل الضغوط السياسية التي يواجهها إيمانويل ماكرون.
لا تخضع علاقات الدول الغربية لتقديرات الأشخاص، فهناك مؤسسات راسخة ومصالح استراتيجية تتحكم في مفاصلها الرئيسية، ربما تتأثر نسبيا بطبيعة الشخص الحاكم والحزب السياسي الذي ينتمي إليه والمنطلقات التي تؤثر في خطابه الموجه إلى الخارج، لكن في النهاية توجد قواعد تتحكم في التوجهات العامة.
الرئيس المصري استوعب مفردات القاموس الفعّال في إدارة العلاقات الدولية بصورة سريعة كي يتمكن من إطفاء الحرائق التي نشبت وهو لا يزال يخطو أولى خطواته
مع التغيرات المتسارعة على الساحة الدولية وشعور الكثير من الدول الغربية بعواقب ما يمكن وصفه بإهمال الشرق الأوسط، علاوة على حنكة كل من روسيا والصين في إدارة تحالفاتهما في هذه المنطقة، تزداد الجاذبية نحو مصر لأسباب تتعلق بموقعها الجغرافي وأهميتها الاستراتيجية ودورها المنتظر في المنظومة الإقليمية التي تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة ترتيبها بالطريقة التي تتواءم مع المصالح الغربية.
لذلك لم يجد الرئيس السيسي معاناة كبيرة لإعادة تصفير المشكلات وتضفير العلاقات مع الدول الغربية الأربع التي فقد فيها زعماء كانوا على درجة عالية من تفهم مصالح بلاده، خاصة إذا تمكن من أن يتجاوز عقبة الاختيار بين من ليس معنا فهو ضدنا.
تحاول مصر تخطّي معادلة من ليس مع الغرب فهو مع روسيا، والتي تتطلب أن تكون المواقف أكثر وضوحا، فقد نجحت القاهرة في تطوير علاقاتها مع دول متباينة عندما غلبت الانفتاح على الجميع ومع الجميع، وأوجد السيسي هامشا كبيرا للمناورة ساعده على تفكيك ألغاز الضغوط الغربية التقليدية، فقد وفر صعود الصين وروسيا بدائل جيدة لمصر وكثير من دول المنطقة.
مثّل الانفتاح المتعدد مزايا نوعية للقاهرة زادت من القدرة على الحركة في اتجاهات عدة، لكن هذه المسألة بقدر ما تنطوي عليه من أهمية قد تؤدي إلى مشكلات مع بعض الدول الغربية إذا أخذت المواجهة مع روسيا مجالا تصاعديا وطبقت أدبيات المعادلة الصفرية (مكاسب عدوّي خسائر لي، والعكس بالعكس)، وهو التحدي الذي يواجه السيسي للمزيد من توطيد علاقاته مع القيادات الغربية منعا لانهيارها.
العرب