يستطيع كل مراقب أن يخرج بكثير من النتائج التي أسفرت عنها قمة جدة للأمن والتنمية السبت وتؤكد في مجملها أن الرئيس الأميركي جو بايدن الذي دعا إليها وشارك فيها مع تسعة من القادة العرب دخلها وفي جعبته تصورات وخرج منها بأخرى مغايرة.
ذهبت كل التقديرات التي تحدثت عن ناتو عربي أو تحالف إقليمي يضم إسرائيل ويعزل إيران أو حتى شكل جديد للتعاون الاقتصادي أدراج الرياح، وربما يكون العنوان المناسب للقمة هو الصدمة، فالرئيس بايدن وجد موقفا عربيا غريبا عليه.
وبدا تجاوز القضية الفلسطينية مسألة عسيرة، وظهرت في كلمات عدد من الزعماء أنها لا تزال أم القضايا في المنطقة، كما جرى رفض الدخول في مواجهة ساخنة مع إيران، وعلى العكس جاء الخطاب العربي العام الموجه إلى طهران لينا سياسيا ومرنا أكثر من أي وقت مضى، وحوى في جوهره رغبة في تصحيح المسارات، ومساواة بينها وبين إسرائيل عندما تجددت الدعوة إلى شرق أوسط خال من الأسلحة النووية.
وجد الرئيس بايدن أمامه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مختلفا عن كل ما سمع عنه، حيث وقف كرجل دولة قوي، لا يخضع لتهديدات أو ابتزازات من واشنطن أو غيرها، وحول جرح الصحافي جمال خاشقجي الذي سعى بايدن لاستثماره لينزف باستمرار إلى كرة لهب يمكن أن تحرق الولايات المتحدة إذا تم التعامل بمعايير حقوق الإنسان التي تريد تطبيقها على بعض الشخصيات والدول.
لن تكون هناك فرصة أفضل من التطورات الحالية لحض واشنطن على تغيير رؤيتها التي لم تجلب للمنطقة سوى تهديم كثير من أركان الأمن والاستقرار بعدد من دولها
قلب الأمير محمد بن سلمان الطاولة عندما أعاد على مسمع الرئيس الأميركي ما جرى في سجن أبوغريب، وما حدث للصحافية الفلسطينية شيرين أبوعاقلة التي لقيت مصرعها مؤخرا، والنتائج الكارثية التي أسفر عنها التدخل الأميركي بالقوة في كل من أفغانستان والعراق، ما جعله يكسب واحدة من الجولات المهمة التي حاولت الإدارة الأميركية أن تجعل منها فتحا جديدا لها في الشرق الأوسط.
تعددت زوايا القراءة لقمة جدة، غير أن الزاوية المثيرة هي أن واشنطن عليها مراجعة سياساتها التي اتبعتها مع المنطقة منذ عقود، حيث كانت تضع الأجندات المختلفة وتجد من ينفذها طوعا أو كرها، فما وجده بايدن في اللقاءات الثنائية والجماعية التي عقدها مع القادة يوحي بأن من خططوا ورسموا معالم جولته في المنطقة لا يعلمون عنها الكثير أو أن حساباتهم كانت غير دقيقة في التعامل معها ما أنتج تصرفات خاطئة.
يمثل الوعد الذي قطعه بايدن بعدم التخلي عن الشرق الأوسط قبيل مغادرته السعودية في ظاهره استجابة للحفاظ على مصالح بلاده التي اهتزت من وراء التحلل من جزء معتبر من التزاماتها، وفي جوهره مراجعة لجملة من التوجهات السابقة التي أدت إلى الحد من درجة التأثير الأميركي على مجريات الأحداث فيها بشكل سمح لآخرين بالتمدد في المنطقة وعدم الاعتداد بما تقدمه واشنطن من تصورات أو أمنيات.
تقتضي عملية المراجعة مراعاة أن قادة الدول العربية قادرون على تقييم مصالح بلدانهم بلا ضغوط من أي جهة، وأن عددا كبيرا منهم يستطيع التصدي للطروحات الأميركية صراحة، وأن المرحلة التي اعتادت فيها الولايات المتحدة توجيه أوامرها وإملاءاتها انتهت وعليها تغيير المنهج الذي تدير به علاقاتها مع دول المنطقة.
قد يكون الإغداق في الوعود خلال زيارة بايدن إلى إسرائيل انقلب إلى أزمة في السعودية، لأن جانبا كبيرا مما حوته الأولى يصعب تحقيقه على الأرض في مسألة القدس عاصمة موحدة لدولة إسرائيل، في ظل وجود قادة عرب بمقدورهم الامتناع عن تنفيذ ما يطلب منهم، وهذا من أهم الدروس التي من الضروري أن يستوعبها جو بايدن ومن سيأتي بعده، سواء أكان منتميا للحزب الديمقراطي أو الجمهوري.
جنى الرئيس الأميركي في قمة جدة ثمار ارتباكاته في مواقفه تجاه الشرق الأوسط وتناقضاته في تقدير الآلية التي سيتعامل بها مع المملكة وولي العهد السعودي، حيث جاءت النتيجة مخيبة للآمال، لأن بايدن جعل الدولة العظمى الأولى في العالم غير كفء بهذه المكانة، وسوف تضطر إلى إعادة التفكير في رؤاها ومراجعة تصوراتها، فلم يعد في وسع واشنطن ضمان تطبيق خططها الاستراتيجية الكبرى.
الولايات المتحدة خسرت جزءا مهما من رصيدها في المنطقة وبدأت جاذبيتها لدى عديد من الزعماء تتوارى تدريجيا، حيث تسببت السياسات الفوقية التي اتبعتها في إحداث ألم لم يندمل بعد
ظهرت الملامح السلبية للسياسات الفوقية التي تبناها بايدن في التعامل مع الأزمة الأوكرانية التي اصطحبت معها تداعيات تؤكد أن الولايات المتحدة تريد هندسة العالم بطريقة تحافظ على مصالحها من دون اعتبار لمصالح القوى الأخرى، وهي الخطيئة التي حاولت تكرارها في التعاطي مع الشرق الأوسط عندما بشرت بعودتها المظفرة.
إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قدم درسا قاسيا في المخاطر التي يمكن أن تحدق بنظيره الأميركي جو بايدن، فإن قمة جدة ضاعفت من صعوبة الرهان على تكتيل عدد كبير من الدول لتدور في الفلك الغربي لأجل كسر شوكة موسكو، فغالبية الطموحات التي تمنت واشنطن تحقيقها في السعودية تحطمت على صخرة عدم الاستجابة لكثير مما حمله بايدن في حقيبته التي ذهب بها إلى جدة.
تستوجب المراجعة إدراك حجم التحولات التي حدثت في الشرق الأوسط عقب انصراف واشنطن عن الانخراط في كثير من تفاعلاتها الفترة الماضية، والتي أشارت إلى أن التعويل على واشنطن بات ضربا من الخيال في ظل إشارات متعددة من قبل رئيسها أفادت بأن هذه المنطقة لن تحتل أولوية استراتيجية لبلاده.
يفرض ما جرى من تحولات صياغة رؤية تتماشى مع حجم التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة، لأن الطريقة التقليدية التي اعتادت عليها السنوات الماضية فقدت مفعولها وتحتاج إلى بلورة رؤية تنسجم مع التغيرات وفي مقدمتها أن واشنطن لم تعد سيدة للمنطقة والدول التي اعتادت الانصياع لها من قبل نبذت هذه السياسة.
خسرت الولايات المتحدة جزءا مهما من رصيدها في المنطقة وبدأت جاذبيتها لدى عديد من الزعماء تتوارى تدريجيا، حيث تسببت السياسات الفوقية التي اتبعتها في إحداث ألم لم يندمل بعد، وجعلت بعض الدول تتكبد خسائر بحاجة إلى وقت لتعويضها.
لن تكون هناك فرصة أفضل من التطورات الحالية لحض واشنطن على تغيير رؤيتها التي لم تجلب للمنطقة سوى تهديم كثير من أركان الأمن والاستقرار بعدد من دولها.
تحولت قمة جدة من حلم لإرساء قواعد لهيكل جديد للأمن في الشرق الوسط إلى سراب، وعلى الإدارة الأميركية أن توقن أنها لن تتمكن من القبض على مفاتيحها مرة أخرى، وعليها تعديل الدفة والمضي في طريق آخر كي تتمكن من الحفاظ على مصالحها، فالاتجاهات التي تم ضبطها عبر عقود طويلة فقدت بوصلتها.
العرب