برغم تأكيد أجهزة الاستخبارات ومراكز الدراسات الأمريكية والغربية أن أولوية الاستراتيجية الأمريكية والغربية هي احتواء الصين وروسيا والاستدارة من أولويات «الحروب الدائمة» والمواجهات في الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين في حقبة ما بعد الحرب الباردة واعتداءات القاعدة في نيويورك ومبنى البنتاغون ـ وزارة الدفاع في 11 سبتمبر 2001 ـ واستراتيجية الرئيس أوباما عام 2011/2012 بالاستدارة نحو آسيا لاحتواء صعود وتمدد الصين وتمرد ومشاغبات روسيا ـ إلا أن تلك الاستراتيجية فشلت واستمر الشرق الأسط بجذب وإبقاء أمريكا حتى أصبح كعب أخيلها، بحروب أمريكا الدائمة والصراع العربي ـ الإسرائيلي وبرنامج إيران النووي وحروب أمريكا على التنظيمات الإرهابية في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن والصومال، والتعامل مع تداعيات الربيع العربي في الجمهوريات العربية.. وتيقنت إدارة بايدن اليوم برغم الانسحاب المرتبك من أفغانستان ـ وحرب روسيا على أوكرانيا في شهرها السادس، أن لا فكاك من بقائها وعودتها لتكرار التزاماتها وبقائها في المنطقة.
كان ملفتاً في كلمة الرئيس بايدن في قمة جدة للأمن والتنمية انتقاده التراجع الأمريكي من منطقة الخليج العربي ـ دون الانسحاب العسكري، خاصة بعد الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان الصيف الماضي، ما عمق معه أزمة غياب الثقة بالحليف الأمريكي من الحلفاء الخليجيين.
يدعي البعض من غير المتخصصين من يروجون لسراب أنه يمكن للصين وروسيا ملء بعض فراغ التراجع الأمريكي، ويدللون بعودة روسيا للشرق الأوسط عن طريق سوريا في سبتمبر 2015 ـ ومساهمتها بحربها المدمرة بإبقاء نظام الأسد في الحكم على أشلاء ودماء السوريين وخاصة في حلب وإدلب وغيرهما ـ والتحالف المصلحي مع إيران ومحاولات عقيمة عن طريق حوار استراتيجي مع دول مجلس التعاون الخليجي ـ كان آخرها مشاركة وزير الخارجية الروسي لافروف في»الاجتماع الوزاري المشترك الخامس للحوار الاستراتيجي بين مجلس التعاون وروسيا الاتحادية» في مقر الأمانة العامة في الرياض في 1 يونيو 2022. وقبلها تقديم روسيا مبادرة لأمن الطاقة في الخليج العربي لم تحقق أي اختراق أو قبول.
لكن نجحت روسيا حتى قبل حربها على أوكرانيا بتدخلاتها واللعب في الفراغات الاستراتيجية في سوريا وإيران والخليج، وزيادة بيع صفقات الأسلحة لمصر والإمارات وتركيا والسعودية التي وقعت معها اتفاقية تعاون عسكري في الصيف الماضي، وكذلك التعاون مع السعودية في مجال الطاقة ضمن مجموعة
(أوبك بلس) ـ لتثبيت أسعار النفط.
لكن حرب روسيا على أوكرانيا وضعت الدول الخليجية وحلفاء أمريكا في المنطقة وخاصة إسرائيل وتركيا في وضع محرج ـ لعدم إدانتهم الحرب، كما أن أداء القوات الروسية المتواضع وعدم قدرة آلتها العسكرية على حسم الحرب والخسائر البشرية للقوات الروسية والأوكرانية والكلفة الكبيرة على المدنيين بعد ستة أشهر يثير كثيرا من الأسئلة حول سوء التقدير والحسابات الخاطئة وكفاءة القوات الروسية، بالإضافة إلى العقوبات القاسية على روسيا، يفرض إعادة تقييم الدول الخليجية بقدرة وإمكانية روسيا أن تلعب دورا موازنا واقعيا بقدرة روسيا على ملء الفراغ الاستراتيجي الذي خلفه التراجع الأمريكي في المنطقة، ما يضعف مكانة ودور روسيا في الشرق الأوسط، حيث تبدو مرتبكة وبكلفة عالية لمن يتعاون مع موسكو المعاقبة من الغرب.
أداء القوات الروسية المتواضع وعدم قدرة آلتها العسكرية على حسم الحرب والخسائر البشرية للقوات الروسية والأوكرانية والكلفة الكبيرة على المدنيين بعد ستة أشهر يثير كثيرا من الأسئلة حول سوء التقدير والحسابات الخاطئة وكفاءة القوات الروسية
هذا الواقع ينسحب على الصين التي تبدي اهتماماً أكبر في تأمين الإقليم المجاور والمشاطئ لحدودها ومناطق نفوذها في تايوان وبحري الصين الجنوبي. وكان ملفتا في المكالمة الهاتفية بين الرئيسين بايدن والرئيس الصيني تشي قبل أيام، تباين المواقف ـ وتحذير الرئيس الصيني الرئيس بايدن «من يلعبون بالنار سيحترقون بها.. وآمل أن يدرك الأمريكيون ذلك الأمر»! في تحذير لأمريكا بعدم التدخل في تايوانـ تعتبره الصين إقليما متمردا ـ وإصرار الرئيس بايدن على التمسك بموقف الولايات المتحدة حول تايوان حول الصين الواحدة ـ وعدم الاعتراف باستقلال تايوان أو إقامة علاقات مع تايوان وتشجيع استقلالها. وذلك بعد تصريحات وتهديدات نارية من الصين لدفع رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي من زيارة تايوان في أغسطس، لإلغاء زيارتها.
تبرز الصين أكثر من روسيا في الاستراتيجية الأمريكية مصدرا رئيسيا لتحدي ومنافسة الولايات المتحدة على مختلف الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية وحتى التكنولوجية، لذلك شكلت الولايات المتحدة تحالفات عديدة من دول منطقة ما تطلق عليه «المحيطين الهندي والهادئ» تضم اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والهند.
أطلق وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في مايو 2022 استراتيجية الولايات المتحدة تجاه الصين ـ واصفا الصين الدولة الوحيدة القادرة على التأثير وتغيير تركيبة وواقع النظام العالمي. لذلك تبرز الصين كأكبر تحد للولايات المتحدة الأمريكية.
لكن الصين التي وقعّت اتفاقية ربع قرن بقيمة 400 مليار دولار مع إيران عام 2021 ـ وكان من المتوقع أن تتجاوز استثمارات الصين 16 مليار دولار سنوياً على مدى 25 عاماً ولكن في الواقع لم تتجاوز 4.7 مليار دولار بين عامي 2005/2020! ولا يزال حضور الصين محدودا في إيران والمنطقة برغم تضاعف بيع صفقات الأسلحة لدول المنطقة في السنوات الماضية، لكن الصين لا تملك قدرة التمدد العسكري ولا القدرات والقواعد العسكرية ولا الوجود العسكري برغم مشروعها العملاق «الحزام والطريق الواحد» ـ بأن تعوض ولو جزئياً كما يتوقع أو يأمل البعض ـ التراجع الأمريكي العسكري. خاصة أن الصين لا تملك سوى قاعدة عسكرية واحدة يتيمة في المنطقة منذ عام 2007 في جيبوتي في القرن الأفريقي! برغم استثماراتها الكبيرة في الحزام والطريق الواحد في إيران وباكستان وسيرلانكا وسلطنة عمان. كما أن أمريكا تدخلت حسب وول ستريت جورنال لوقف بناء قاعدة عسكرية صينية في ميناء خليفة في أبوظبي وبناء مجمع لتجميع الصواريخ الصينية في السعودية. لكن الصين ترفض أن تأخذ موقفا واضحا وحاسما تجاه الكثير من ملفات وأزمات المنطقة وخاصة الصراع العربي ـ الإسرائيلي أو في قضايا حقوق الإنسان وغيرها من القضايا.
كما أن أحد الدوافع لزيارة الرئيس بايدن للسعودية والمنطقة والمشاركة في قمة جدة للأمن والتنمية، بالإضافة إلى طمأنة الحلفاء الخليجيين ومصر والعراق والأردن بأن أمريكا باقية ولن تنسحب من المنطقة، كان تأكيده وتكراره أن إدارته لن تسمح للصين وروسيا وحتى إيران ملء أي فراغ. وبرغم عدم الاقتناع بتلك الادعاءات، إلا أنه مع ذلك يبقى التعويل على دور أمني لروسيا والصين في المنطقة ضربا من الخيال!
القدس العربي