السياسة الخارجية الإيرانية بين الانحياز والواقعية

السياسة الخارجية الإيرانية بين الانحياز والواقعية

على الرغم من الجهود التي بذلها الرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني، بما كان يملك حينها (1989-1997) من تأثير استمده من شراكته في قيادة النظام إلى جانب المرشد علي خامنئي في مرحلة ما بعد المؤسس، لإبعاد إيران ونظامها عن تداعيات التحولات والتغيرات الجيواستراتيجية التي شهدتها منطقة غرب آسيا، من خلال اعتماد مبدأ “الحياد الإيجابي” في التعامل مع “ثورة الأحادية القطبية” الأميركية. ومع سياسة الانفتاح التي قادها باتجاه دول الجوار العربي، بخاصة الخليجي، فإنه لم يستطع كسر سد العلاقة مع واشنطن، والذي تحول إلى عائق ديني وعقائدي رفعته مواقف المرشد إلى المستوى الأيديولوجي، بخاصة أن الإدارة الأميركية وسياساتها تجاه طهران ساعدت الأخير على التمسك بهذا الموقف مدعوماً من المؤسسة العسكرية العقائدية المتمثلة بـ”حرس الثورة”.
هذه الانتكاسة في الحضور الإيراني على الساحة الدولية والسياسة الخارجية لم تبدأ بالانحسار إلا بعد وصول محمد خاتمي إلى رئاسة الجمهورية، الذي شكل مشروعه الإصلاحي والخطاب المنفتح الذي اعتمده في مخاطبة المجتمع الدولي والمحيط الجغرافي مفتاح المرحلة التي عُرفت بمرحلة خفض التوتر وعودة الانفتاح. فاستطاع إعادة ترميم العلاقة بين طهران والعواصم الأوروبية، بالإضافة إلى الحوار المفتوح مع دول الجوار العربي وغير العربي، ما مكنه وسمح له بالتعامل مع تداعيات أحداث خطيرة حصلت في المحيط الإيراني، سواء في الشرق مع الاحتلال الأميركي لأفغانستان في عام 2001 بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) في نيويورك، وقبلها مع “حركة طالبان” بعد قيامها بقتل 11 دبلوماسياً إيرانياً في مدينة مزار شريف في عام 1998. ولاحقاً أثناء الحرب في العراق عام 2003، والتي وضعت إيران بين فكي كماشة أميركية من نحو 300 ألف جندي بكامل عتادهم البري والبحري والجوي، فضلاً عن إدراج إيران ضمن “محور الشر” من قبل الرئيس الأميركي حينها جورج دبليو بوش بعد اتهامها بالوقوف وراء إرسال شحنة الأسلحة التي حملتها باخرة “كارين أي” للفصائل الفلسطينية.

الموقف الأميركي هذا أحبط القيادة الإيرانية التي كانت تعمل على فتح قنوات تواصل مع الإدارة الأميركية للخروج من حالة العداء القائمة والتي تعطل الجهود الإيرانية الهادفة إلى الانتقال للعب دور إقليمي. وهو مسار بدأ بهدوء وبعيداً من الجدل منذ عهد رفسنجاني والزيارات التي قام بها وفد من قِبله إلى البيت الأبيض، ثم تبلور في “مؤتمر بون” حول المسألة الأفغانية، ولاحقاً في التعاون مع الموقف المتعلق بالعراق واعتماد مبدأ “الحياد الإيجابي” في عهد خاتمي.
إلا أن قيام مجموعة “مجاهدي خلق” بالكشف عن الأنشطة النووية الإيرانية، وتحديداً تخصيب اليورانيوم في منشأة نطنز، أطاح كل الجهود التي بذلها خاتمي لترميم السياسات الخارجية والتعامل مع المجتمع الدولي. بخاصة أن فريق خاتمي الدبلوماسي، والذي كان يعمل تحت إشراف ونظر المرشد بعيداً من الصراعات الداخلية بين التيارين، الإصلاحي والمحافظ، بادر إلى اتخاذ خطوات تساعد على فتح حوار مع عواصم القرار الدولي، تحديداً واشنطن، من بوابة القضية المحورية في أزمة الشرق الأوسط، عندما أكد في عام 2000 وزير الخارجية كمال خرازي قبول إيران بما يقبل به الفلسطينيون في موضوع حل الدولتين، وعدم المعارضة، مع احتفاظها برؤيتها الخاصة بالحل القائم على ما اقترحه المرشد بإجراء استفتاء بين السكان الأصليين من مسلمين ومسيحيين ويهود حول طبيعة الدولة التي يريدونها

الانفتاح الذي حققه الخطاب الإصلاحي والحواري الذي قدمه خاتمي بين إيران والمجتمع الدولي، والذي أسهم في رفع منسوب الأمل بإمكانية حصول حوار مباشر بين طهران وواشنطن، بخاصة في عهد الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، وعودة العلاقات وتبادل السفراء من جديد بين إيران ودول الاتحاد الأوروبي، كل ذلك أُحبط نتيجة “صدمة” الكشف عن أنشطة إيران النووية السرية وقدرتها على تخصيب اليورانيوم. الأمر الذي أجبر خاتمي على تأكيد هذه الأنشطة، سعياً إلى فتح باب للحوار مع هذه العواصم الأوروبية لإبعاد شبح الحصار والحرب الأميركية ضد بلاده.
وذهبت السياسة الإيرانية الخارجية في مطلع الألفية الثالثة إلى خيار الرهان على بناء علاقات دبلوماسية مع العواصم الأوروبية، للالتفاف على “الحصار الأميركي”، وهي سياسة كانت تراهن على خلق “شرخ” في المواقف بين الكتلة الأوروبية والسيطرة الأميركية، قد تسمح لإيران أن تنفذ من خلالها من دون أن تكون مجبرة على تقديم تنازلات قاسية، وتسمح بكسر الجليد وجدار عدم الثقة المرتفع بينها وبين واشنطن في المستقبل، ومحاولة التفاهم على نقاط تشكل مساحة اهتمام مشترك بينهما.

في هذه الأثناء، وفي المرحلة التي نشطت خلالها الترويكا الأوروبية (ألمانيا وبريطانيا وفرنسا) ومفوض السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي آنذاك، خافيير سولانا، لتفكيك الأزمة النووية الإيرانية، كان الجانب الروسي يبذل جهوداً حثيثة لمحاولة الدخول على خط هذه المفاوضات، بخاصة أنه يعتبر نفسه معنياً بهذه الأزمة، لجهة الدور الذي يلعبه في استكمال بناء مفاعل بوشهر للطاقة الكهرونووية، وعقود تزويد إيران بالوقود. وأن تعطيل أنشطة إيران في تخصيب اليورانيوم لإنتاج هذا الوقود يصب في مصلحته الاقتصادية.
في الأشهر الأخيرة من رئاسة خاتمي استطاع الطرفان (إيران والترويكا الأوروبية) الوصول في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ونتيجة المفاوضات التي كان يقودها عن الطرف الإيراني، حسن روحاني، سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي آنذاك، إلى إعلان الاتفاق على تعليق الأنشطة النووية ووقف التخصيب. وهو الاتفاق الذي ساعد في خفض التوتر والتهديد الأميركي، مع تمسك واشنطن بموقفها المطالب بتفكيك هذا البرنامج وتوسيع الرقابة الدولية وعمليات التفتيش المباغت. الأمر الذي دفع النظام للذهاب إلى خيار التصعيد مجدداً، بحيث كان خاتمي مجبراً في الأيام الأخيرة لرئاسته، وقبل ساعات من تسليم مقاليد السلطة التنفيذية للرئيس الجديد محمود أحمدي نجاد، على إعلان تعليق العمل باتفاق أكتوبر 2004 مع الترويكا الأوروبية واستئناف أنشطة تخصيب اليورانيوم.

اندبندت عربي