شهد العراق في الآونة الأخيرة احتقاناً شعبياً غير مألوف وانقساماً بين أنصار التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر وأنصار الإطار التنسيقي المقرب من إيران. وطرحت الاحتجاجات الأخيرة تساؤلات عدة حول مواقف التيارات المدنية من هذا الحراك، وما إذا كانت ستستجيب لدعوة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الأخيرة للانضمام إلى ما أطلق عليه “ثورة محرم”.
لكن عوامل عدة تعرقل إعلان القوى المدينة مواقف صريحة إزاء هذا الحراك حتى الآن، خصوصاً مع تراث طويل من الخلافات والإشكالات بين التيار الصدري والقوى المدنية أو حراك احتجاجات عام 2019.
وبشكل عام، بدأ مسار التفاعل بشكل تدريجي مع ما يفعله الصدر، لكنه تفاعل ما يزال حذراً لأسباب عدة، أبرزها المخاوف من الانزلاق نحو صراع دامٍ بين الأطراف المسلحة في البلاد، فيما يتحفظ كثير من القوى المدنية على المشاركة خوفاً من أن تكون حركة زعيم التيار الصدري مشابهة لما حدث في احتجاجات سابقة، ولا تقود إلى أية نتائج.
وإضافة إلى ذلك، يعزز ما حصل في احتجاجات أكتوبر (تشرين الأول) 2019 بين القوى المدنية والتيار الصدري، والاتهامات للأخير بالضلوع بعمليات قتل وقمع للمحتجين، المخاوف من الدخول في الحراك، خصوصاً مع عدم حسم التيار الصدري أو تجاوبه مع تلك الملفات على الرغم من المطالبات الكثيرة من قوى تشرين وذوي الضحايا.
غير أن التيار نفى علاقته بتلك الجرائم، وقال أحد أعضائه عصام حسين إن “ما حدث كان أخطاء، والنيران لم تنطلق من الصدريين بل من آخرين”، وأضاف في حوار صوتي مطول على “تويتر”، يوم 2 أغسطس (آب)، أن “تلك القضية حصلت أثناء اشتباك بين بعض المتظاهرين وأفراد من التيار الصدري، لكن من أطلق النار ليس الصدريين”، وتابع أن “المتهمين في مقتل المتظاهر مهند القيسي وبقية المتظاهرين موجودون في السجن وتحت سلطة القضاء”، وفي ما يتعلق بذي قار، أشار حسين إلى أن الضحايا كانوا من الطرفين، وما يتم قوله عن أن التيار استخدم العنف ضدهم ليس دقيقاً، وما حصل كان احتكاكات في أجواء فوضوية وضحاياها من الطرفين.
مخاوف من عقد تفاهم جديد
ويبدو أن بيان التيار الصدري الذي جاء رداً على دعوة الحوار التي أطلقها زعيم تحالف “الفتح” المقرب من إيران هادي العامري زاد من منسوب التحفظ لدى كثير من الشخصيات والتيارات المدنية، إلا أن زعيم التيار الصدري سرعان ما رد على تلك المخاوف من خلال خطاب متلفز أكد فيه رفض الحوار مع أطراف “الإطار التنسيقي”، ورفض الصدر في خطاب، الأربعاء 3 أغسطس، الحوار مع “الإطار التنسيقي” للوصول إلى حل سياسي، لافتاً إلى أن “الحوار معهم لن يعود بفائدة ترتجى”.
وجدد الصدر اتهاماته لـ”الإطار التنسيقي” بـ”عرقلة تشكيل حكومة أغلبية عبر دعاوى كيدية”، داعياً إلى حل البرلمان العراقي وإقامة انتخابات جديدة.
وفي سياق الحديث عن حرب شيعية- شيعية، أكد الصدر أنه “لا يسعى إلى إراقة الدماء، ولن يبدأ بذلك”، وهو “مستعد للشهادة”، وتابع، “لا يوهمونكم بأن الثورة صراع على السلطة”، مبيناً أن “الثورة وإن بدأت صدرية فهي لكل العراقيين”، وفيما بدا كأنه رد على مطالب التيارات المدنية، أشار الصدر إلى أن “الثورة لن تستثني الفاسدين في التيار الصدري”، كما دعا أنصاره إلى الاستمرار في الاعتصام بالمنطقة الخضراء لـ”حين تحقيق المطالب”، مشدداً على ضرورة “إجراء انتخابات مبكرة بعد حل البرلمان الحالي”.
ويأتي خطاب الصدر الأخير في الوقت الذي تسربت فيه أنباء عن احتمال عقد صفقة بينه وبين أطراف “الإطار التنسيقي”؟
وكان التيار الصدري قد وضع شروطاً عدة للتنازل والقبول بالحوار، بحسب بيان للمقرب من زعيم التيار صالح محمد العراقي، وتلخصت الشروط في “انسحاب العامري من الإطار التنسيقي” واستنكار كلام رئيس تحالف “دولة القانون” نوري المالكي.
وبحسب متابعين سياسيين، بات زعيم التيار الصدري يطمح إلى ترميم العلاقة مرة أخرى مع القوى المدنية في العراق وخصوصاً قوى انتفاضة 2019 التي يطلق عليها “قوى تشرين”، إلا أن هذا المسار تشوبه عدد من العراقيل، أبرزها الاتهامات من قبل “قوى تشرين” للتيار الصدري بمسؤوليته عن قتل وقمع المتظاهرين أثناء احتجاجات أكتوبر 2019.
ولعل ما يجعل إمكانية ترميم تلك العلاقة أمراً معقداً هو حديث الناشطين عن انقلاب التيار الصدري على ساحات الاحتجاج في أكثر من مناسبة، فضلاً عن التذبذب الدائم في الحراك السياسي للتيار خلال السنوات الماضية.
ويرى مراقبون عدم إمكانية الحصول على موقف موحد من “قوى تشرين” أو بقية القوى المدنية الأخرى، خصوصاً مع كون تلك القوى ليست جبهة موحدة تحظى بمركزية في القرار السياسي، كما هو الحال مع التيار الصدري.
وتباينت آراء القوى المدنية و”قوى تشرين” بشأن الاشتراك في حراك التيار الصدري، ففي حين قررت مجموعات على صلة بـ “قوى تشرين” الاشتراك شريطة أن يوافق الصدر على مطالبها الخاصة بـ”تغيير النظام إلى رئاسي وإعادة كتابة الدستور، وإسقاط المنظومة الحاكمة ومحاسبة الفاسدين بمن فيهم من ينتمون للتيار الصدري”، يرى طيف آخر بعدم جدوي الاشتراك، كما عبرت أحزاب أخرى عن رغبتها بالاشتراك من دون شروط.
غياب ثقة التيارات المدنية
ولا تقتصر مخاوف التيارات المدنية على الخلافات خلال السنوات الماضية فحسب، إذ يرى ناشطون مدنيون أن وضع الكرة في ملعب تيار ديني كالتيار الصدري من قبل القوى المدنية يمثل “مجازفة بمستقبل الحريات والديمقراطية في البلاد”.
ويرى الناشط مهتدى أبو الجود أن غياب ثقة التيارات المدنية بالتيار الصدري خلال تجارب السنوات الماضية، هو الذي يجعل اتخاذ قرار بالمشاركة مع حراك الصدر الأخير أمراً معقداً، ويشير في حديث لـ”اندبندنت عربية” إلى أن “المخاوف تتعدى إمكانية انقلاب التيار الصدري على أي تفاهمات محتملة بينه وبين القوى المدنية، وتتعلق بغياب الضمانات المتعلقة بالحريات المدنية ومسار الديمقراطية في البلاد في حال تمكّن التيار الصدري”.
فرصة للتغيير
وعلى الرغم من تلك المخاوف، أعلن عدد من القوى والشخصيات المدنية تأييدهم حراك الصدر الأخير ودعوا إلى المشاركة فيه.
القيادي في “مشروع المواطنة” غيث التميمي دعا إلى “الاستجابة الفاعلة لدعوة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر حول المشاركة في (ثورة محرم الحرام) في اعتصام المنطقة الخضراء”، وقال إن ما يجري يمثل “فرصة للتغيير، وإن الحديث عن عدم الثقة بالصدر ليس محله الآن، لأن صناعة التغيير لا تُبنى على الثقة والعواطف بل المواقف والاصطفافات الصحيحة، والبحث عن شراكة الأقوياء مع ضمان تسويات عادلة وشجاعة تنعكس بصورة واضحة ومباشرة على سيادة الدولة والقانون وإنفاذ الدستور وحياة المواطنين اليومية”.
وأشار إلى أن “مشروع المواطنة” يتبنى مبادرات اتحادية ضرورية تتعلق بتنظيم وترميم البيئة الاقتصادية والاستثمارية للدولة، مبيناً أنه “لا يمكن تحقيق شيء من ذلك مع قوى الإطار التنسيقي التي عجزت عن تقديم البديل عن المحاصصة ومنطق السلاح، وتبرير التدخلات الأجنبية في العراق وإقحام العراق في صراعات إقليمية ودولية، لا تخدم العراق ولا تحقق تطلعات شعبه”.
مسارات عديدة
وتتباين آراء الباحثين في الشأن السياسي بخصوص الخطوات التي يفترض أن تتخذها القوى المدينة وتحديداً تلك التي تمثل حراك تشرين الاحتجاجي، إذ يرى طيف منهم ضرورة “عودة التحالف بين قوى تشرين والتيار الصدري” كحل وحيد لمواجهة قوى الإطار التنسيقي المدعوم من إيران، فيما يعرض آخرون سلسلة طويلة من المخاوف من احتمالية أن يستغلهم التيار الصدري لتحقيق أهداف سياسية ثم يعيد الانقلاب عليهم.
ويعتقد الكاتب والصحافي العراقي محمد عزيز أن ما سيحفز مزيداً من الشرائح الشعبية إلى التفاعل مع حراك التيار الصدري “يرتبط بالعامل الزمني، وكلما مر مزيد من الوقت مع صمود أنصار التيار الصدري سيزداد تفاعل وربما انضمام كثير من العراقيين إلى هذا الحراك”، ويضيف أن “عامل الوقت ربما يتم استثماره أيضاً من قبل الفصائل المسلحة لتأليب الشارع العراقي ضد حراك الصدر، من خلال اتهامه بتعطيل تشكيل الحكومة وعرقلة سير أعمال الناس ومصالحهم”.
ويواجه حراك التيار الصدري تحدياً كبيراً يتعلق بضرورة القيام بـ”إجراءات عاجلة لاستقطاب مزيد من المتفاعلين مع تلك الحركة”، بحسب عزيز الذي يشير إلى أن هذا الأمر لا يمكن حصوله من دون “طمأنة مخاوف العراقيين وإزالة شكوكهم إزاء حراك التيار الصدري”، ويلفت إلى أن محورين رئيسين يمثلان المعرقل الأبرز أمام التفاعل الشعبي مع حراك التيار، يرتبط الأول بـ “المخاوف من أن تقود مساندة الحراك إلى نزاع مسلح”، أما الأمر الآخر فيتعلق بالشكوك من احتمالية أن تنتج تلك الحركة شيئاً ذا جدوى”، ويعتقد أن على التيار الصدري معالجة تلك الثغرات وإشعار العراقيين بأن خطته لديها فرصة لإحداث تغيير جذري قبل الدعوة إلى المشاركة بحراكه، مبيناً أن التيار الصدري يطالب العراقيين بالانضمام إلى حراكه من دون أجندة واضحة.
“فرصة لتفكيك الإطار التنسيقي”
في المقابل، يتحدث أستاذ العلوم السياسية عن ثلاثة أسباب خلف قلق القوى المدنية من المشاركة بحراك التيار الصدري، يتعلق الأول بـ”الخلاف الفكري مع التيار الصدري كتيار ديني، وهذا يمثل أبرز أسس الخلاف بين الطرفين”، أما العامل الآخر فيرتبط بـ”حجم التيار الصدري وتنظيمه ووجود قيادة مركزية له، مقابل تشظي القوى المدنية واختلاف الآراء داخلها وعدم وجود مركزية في قرارها، وهو ما يجعل القوى المدنية تستشعر إمكانية أن تكون لها مساحة هامشية في القرار داخل أي تشارك محتمل”.
ويتابع الهيتي أن السبب الثالث يتعلق بتردد التيار الصدري في مواقفه خلال السنوات السابقة، إلا أنه وعلى الرغم من تلك المخاوف يعتقد الهيتي أن “ما يجري يمثل فرصة على القوى المدنية استثمارها لحصد مكاسب وطنية”، لافتاً إلى أنه على القوى المدنية تقديم “مشروعها إلى التيار الصدري كشرط للاشتراك بالحراك”، ويشير الهيتي إلى أن “الدافع الآخر الذي على القوى المدنية استثماره يتعلق بمؤشرات تفكك الإطار التنسيقي، وهو ما يجعل فرصة ملء الفراغ السياسي من قبل قوى تشرين ممكنة جداً”.
ووجّه صالح محمد العراقي المعروف بـ”وزير الصدر” الثلاثاء المعتصمين بإخلاء البرلمان، فيما دعاهم إلى انتظار مزيد من التعليمات.
اندبندت عربي