بعد غزو روسيا لأوكرانيا وتنمر الصين على تايوان ودعم دول مؤثرة في أقاليمها: كوريا الشمالية وإيران وهنغاريا وصربيا، وانضمت لهم سوريا التي يدين الأسد ببقائه لتدخل روسيا الدموي في سوريا عام 2015 وزايد الأسد على القوى الكبرى كالصين، باعترافه بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، في إقليم دونباس شرق أوكرانيا، سارع الرئيس بوتين ومعه الرئيس الصيني تشي شنغ بنغ للإعلان عن تحول النظام الدولي لنظام متعدد الأقطاب لمقارعة وتحدي الغرب بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي.
وبرغم نجاح الولايات المتحدة مع تحالفها الغربي في منع تحالف أقوى قوتين شيوعيتين في النظام العالمي-روسيا والصين، طوال الحرب الباردة، إلا أن هناك تحالفا يتشكل بين روسيا والصين لمواجهة التحالف الغربي، يتمحور حول الجيو- بوليتكس، والاقتصاد والطاقة وبسط نفوذ روسيا والصين على المناطق في جوارهما الإقليمي روسيا في شرق أوروبا والبلطيق والقوقاز والعقيدة العسكرية البحرية التي أعلنت الأسبوع الماضي التمدد حتى المحيط الأطلسي والقطب المتجمد الشمالي والمتوسط. والصين في مناطق نفوذها في بحر الصين الجنوبي وجنوب شرق آسيا ومضيق تايوان.
وما شهدناه من تصعيد كلامي وعسكري ومناورات وحبس أنفاس صيني غير مسبوق ضد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي لتايوان الأسبوع الماضي، إلا نموذج لتخلي الصين عن موقفها «الصعود الصامت» للتمكن من مقارعة ومناكفة أمريكا ورفض تحديها في مناطق نفوذ الصين، خاصة حول تايوان التي تبقى في استراتيجية الصين إقليما متمردا، ستعود للصين الأم طال الزمن أو قصر!
شكل سقوط وتفكك الاتحاد السوفييتي والشيوعية لـ15 جمهورية- نهاية الحرب الباردة عام 1991 كرس زعامة الولايات المتحدة على قيادة النظام العالمي، وأفرز نظاما عالميا أحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. لكن سرعان ما تحول هذا النظام العالمي الجديد لنظام طغت فيه الولايات المتحدة بقوتها العسكرية والناعمة والذكية على النظام العالمي عززها ومنحها الغطاء اعتداءات 11 سبتمبر 2001-بحروب استباقية قادتها جماعة «المحافظين الجدد» لتغير الواقع تحت يافطة الحرب على الإرهاب التي تحولت لحرب على الإسلام- وحروب أمريكا الاستباقية على أفغانستان(2001) والعراق (2003) ولاحقاً الحروب على التنظيمات الإرهابية – القاعدة – طالبان وداعش وغيرهم. في شيطنة للإسلام السني، تكلل باغتيالات للقيادات: أسامة بن لادن عام 2011 في باكستان وقبله الزرقاوي في 2006 في العراق، وأبو بكر البغدادي زعيم داعش في 2019 في سوريا، وأيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة وخليفة بن لادن الأسبوع الماضي في كابول أفغانستان بعد عام من الانسحاب الأمريكي المرتبك من أفغانستان.
برغم نجاح الولايات المتحدة مع تحالفها الغربي في منع تحالف أقوى قوتين شيوعيتين في النظام العالمي، روسيا والصين، طوال الحرب الباردة، إلا أن هناك تحالفا يتشكل بين روسيا والصين لمواجهة التحالف الغربي
ما أثار علامات استفهام كبيرة ـ حول علاقة وتعاون طالبان مع القاعدة ـ كما تتهم قيادات وأعضاء مجلس شيوخ أمريكيين من الحزب الجمهوري إدارة بايدن بحساباتها الخاطئة والانسحاب الأمريكي من أفغانستان، قاد لتعاون جديد بين طالبان، التي فرضت سيطرة كاملة على أفغانستان مع تنظيم القاعدة. وبرغم تنديد ورفض طالبان للاعتداء الأمريكي بطائرة مسيرة لاغتيال أيمن الظواهري في منزل يملكه وزير الداخلية في حكومة طالبان – وتأكيدها أن الحركة لم تكن على علم بوجود الظواهري في كابول ـ إلا أنه بات واضحاً أن هناك تعاونا بين طالبان والقاعدة، وهذا ما كان متوقعاً بعد الانسحاب العسكري الأمريكي.
تحذر الدراسات الأمنية التي تصدرها أجهزة الاستخبارات الأمريكية منذ أكثر من عقد من صعود الصين لمستوى منافس للولايات المتحدة على جميع الأصعدة وتقدمها خلال عقد من الزمن لتزيح الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم، وبقدرات عسكرية تضاف للقدرات الاقتصادية والصناعية الواسعة. يساند ذلك التوقع، دراسات تصدرها المراكز الفكرية والاستراتيجية في الولايات المتحدة وحول العالم.
ما شهدناه خلال الأيام الماضية التي سبقت ورافقت وأعقبت زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي المستفزة كما وصفتها الخارجية الروسية وسبقتها الصين بوصف زيارتها لتايوان، تحديا سافرا واعتداء على سيادة الصين، وتوعدت برد فعل سيظهر في قادم الأيام من مناكفات وإجراءات عقابية، كما ردت الصين بإجراء مناورات عسكرية بإطلاق صواريخ بالستية فوق تايوان وخرق المقاتلات الصينية المجال الجوي لتايوان، وسقوط صواريخ بالستية صينية في المنطقة التجارية الخالصة لليابان، يشكل تغيير لقواعد اللعبة في شرق آسيا، وذلك برغم تكرار الولايات المتحدة التزامها بموقفها الرسمي منذ السبعينيات من أيام نيسكون-كيسنجر بـ «صين واحدة» مع رفض واشنطن استقلال تايوان أو الاعتراف باستقلالها وإقامة علاقات دبلوماسية. الخشية اليوم أن تتسبب زيارة بيلوسي المستفزة بحصار الصين لتايوان، وليس بتعزيز ديمقراطيتها!
شجع تجرؤ بوتين بشن حربه على أوكرانيا لتغيير قواعد اللعبة والجغرافيا بالقوة في أكبر وأكثر حرب دموية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وساهم بتغيير حسابات القيادة الصينية لتتجرأ وتتحدى الغرب الداعم بقوة لحكم تايوان وهونغ كونغ بنظاميهما الديمقراطي، لتحدي استراتيجية احتواء الصين. وبرزت مخاوف وتساؤل واقعي، هل تشجع حرب بوتين على أوكرانيا، تشي شنغ بنغ على غزو وضم تايوان إلى الصين الأمّ؟
يرافق ذلك مواجهات وتصعيد وعودة لأجواء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا لما كانت عليه الأوضاع في الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية، واصطفاف الغرب ممثلاً بحلف الناتو والاتحاد الأوروبي وفرض عقوبات قاسية وخاصة على قطاع الطاقة الروسي وخاصة الغاز، وتزويد أوكرانيا بالسلاح الفتاك وتعقب وعقاب ومصادرة أملاك ويخوت وقصور الأولغارشية الطبقة المقربة من بوتين ونظامه.
فيما تتحول حرب روسيا على أوكرانيا في شهرها السادس لحرب بالوكالة وحرب استنزاف للطرفين-وهذا ما يعول عليه بوتين لاستنزاف الغرب خاصة مع اقتراب فصل الخريف في أوروبا وحاجة الدول الأوروبية للغاز الروسي. بات بوتين، بسبب عقوبات الدول الغربية القاسية على روسيا أشبه بمن يطلق الرصاص على قدميه، لاستمراره بحرب متعثرة، فشلت في أهدافها الاستراتيجية.
لا شك أن مخاض هذه التحولات الكبرى في النظام العالمي بدفع من روسيا والصين مع اصطفافات داعمة لتوجههما في عدة أقاليم تُسّرع وتيرة التحولات الكبرى لتشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب، لن يكون الغرب اللاعب الوحيد وصاحب الكلمة الفصل في تشكيله…
القدس العربي