يريد الجميع في مصر أن يخرجوا من حالة الجمود التي تعيشها البلاد، ويطالبون بتغييرات فعلية للخروج من الأزمة الاقتصادية. صار هذا التفكير علنيا على مواقع التواصل، لكن الجديد أنه امتد ليصبح على لسان بعض الشخصيات المعروفة مثل وزير الري الأسبق. والنظرة الموضوعية تقول إن على الرئيس المصري أن يقود ثورة تصحيحية لكسر هذا الجمود.
وصل حديث الجمود العام إلى مستوى مرتفع في مصر، ولم يستطع الصراخ والصياح والتشويش الحاصل في وسائل إعلام تابعة للحكومة مداراته، حيث أسهمت دعوة الحوار الوطني التي وجهها الرئيس عبدالفتاح السيسي للقوى المختلفة وما تلاها من الإفراج عن عشرات من المحبوسين في السجون من الشباب والنشطاء والسياسيين في التخلص من “تابوهات” أو محرمات متباينة سادت الفترة الماضية.
بدأ كسر عدد من الحلقات مؤخرا بفعل تصرفات جاءت من رحم أجهزة الدولة نفسها استشعرت خطورة استمرار الجمود، وبمساعدة من شخصيات وطنية رفضت الحفاظ على حالة الصمت التي التزمت بها الفترة الماضية خوفا من عواقب الكلام أو فهمها لدواعي الإجراءات التي اتخذتها الدولة في مواجهة جماعة الإخوان وفلولها الذين أرادوا الحفاظ على درجة عالية من الإرباك في دولاب الدولة.
وتمثل صرخة وزير المياه والري المصري الأسبق محمد نصر علّام التي كتبها على صفحته الشخصية على فيسبوك الجمعة عينة من الصراخ والأنين والألم الذي بدأ يتواتر على مواقع التواصل الاجتماعي لشخصيات لا تقل قيمة ووطنية عن علّام، ولم يكن حديث الرجل منصبا فقط على إعلان إثيوبيا عن الانتهاء من مرحلة الملء الثالث لسد النهضة بصورة منفردة الجمعة في تحد كبير للإرادة المصرية.
حوت صرخة علّام الكثير من الإشارات والرسائل والغمزات والرفض الصريح لما وصلت إليه الأوضاع في مصر، وجاءت قيمتها من حجم الاهتمام بها من جانب النخبة المصرية وشرائح عديدة من المواطنين، كأنها تعبر عنهم جميعا، فقد عرف بجديته ووضوحه وعدم استسلامه لليأس، وواجه اتهامات باطلة طالت سمعته وجرت تبرئته أمام ساحات القضاء، ما منح كلامه، والذي صيغ هذه المرة بلا رتوش، درجة عالية من المصداقية ويمكن أن تكون له مردودات بالاهتمام عند أجهزة مسؤولة في الدولة.
يمكن تقليب صرخة علّام المدوية بأشكال مختلفة من دون أن يخطئ من تابعوها التقدير في أنها تدق جرس إنذار في البرية، لأنها ليست إبراء للذمة، فالرجل خارج نطاق المسؤولية الآن، ومع ذلك لم يتوقف عن بث تحذيراته من خلال وسائل إعلام متباينة حول خطورة ما وصلت إليه الأمور من انسداد في أزمة سد النهضة.
تكمن أهمية الصرخة في أنها رفعت الغطاء عن البخار السياسي والكثير من المفردات والمعاني والمضامين التي حاول البعض من المهمومين بمستقبل هذا الوطن التعبير عنها، بعضهم أفلح، وغالبيتهم أخطأوا، لأن السلطة الحاكمة لم تكن لديها الرغبة أو الاستعداد للاستماع لأحد من خارج دائرتها الضيقة.
وبعد أن استحكمت الأزمة الاقتصادية وما يمكن أن تصطحبه معها من احتجاجات اجتماعية، بدأت السلطة تنتبه إلى أن هناك خطرا يلوح في الأفق، وهو ما جعلها تفكر في مزيد من إجراءات الحماية الاجتماعية وتتوقف عن سرديات التوسع في رفع أسعار السلع والخدمات، والانتباه إلى أن رصيد المصريين من التحمل قد يتعثر.
يحتاج التعامل مع الحالة الراهنة إلى وضع آليات للخروج من الجمود العام، والتوقف عن مصادرة مناحي الحياة لصالح فئة معينة ومنتقاة، في السياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة، لم تتمكن مع كل ما حصلت عليه من مزايا من تحقيق نجاحات تشفع لها للإبقاء على هذه الثقة، ما يؤكد أنها ليست على صواب في جميع الخطوات التي قامت بها في التعامل مع الأوضاع العامة على مدار السنوات الماضية.
وبدأت شكاوى المصريين من الجمود تتسع بما يمثل خطورة الفترة المقبلة، لأن الحالة الوحيدة التي يتم فيها القبول به هي أن تتراجع الأزمة الاقتصادية وملحقاتها الاجتماعية، وهذه فرص زيادتها تفوق نقصانها، ويبدو أن هناك خللا في التوجهات بحاجة إلى تصويب لا ينحصر في تغيير وزاري أو في استبدال محافظي المحافظات وقيادات الأقاليم المحلية يتضمن رحيل عدد منهم وتحميلهم مسؤولية الإخفاق العام.
إذا أراد الرئيس السيسي التصويب، عليه أن يقوم بما يشبه “ثورة تصحيح” في السياسات التي أنتجت كل هذا الجمود، وعزل فئة كبيرة من المدنيين في إدارة شؤون الدولة، فقد يكون الاعتماد على المؤسسة العسكرية أفاد الدولة في المرحلة الماضية في نواحي مختلفة، غير أن التمادي في الاعتماد على عناصرها يمكن أن يضر بسمعتها على المدى البعيد، وربما يخلق احتقانا فئويا، لأن الجيش هو المؤسسة التي لا يختلف أحد على وطنيتها وجديتها وانضباطها.
ونجح الاعتماد عليها في تفكيك الكثير من بؤر الفساد والتخلص من جماعات الضغط وحفظ الأمن والتخلص من جذور الإرهاب، لكن التمدد الزائد عن الحد يمكن أن يسهم في رفع مستوى الضغينة لأفراد الجيش وتصدير القلق التقليدي من رجال الشرطة إليهم بسبب ما ينجم عن كثافة احتكاك عناصر المؤسسة الأولى بالمدنيين، والذي يؤدي إلى خلق حساسيات كبيرة مع عناصر عديدة في المجتمع.
وتقود النظرة الموضوعية إلى ما وصلت إليه الحكومة في التعامل مع الأزمات إلى حصيلة متدنية، ومع الاعتراف بأن التحديات كبيرة والمشكلات الطارئة عميقة والمفاجآت الخارجية صادمة وحجم العراقيل الداخلية ليس هينا، إلا أن التصورات والتصرفات لم تكن على المستوى المطلوب للتعامل معها، الأمر الذي منح خصوم النظام المصري المقيمين في الخارج دفعة معنوية جديدة ساعدت في انتعاشهم مؤخرا.
أصبح الطريق إلى الإصلاح الحقيقي حتميا، على طريقة هذا أو الطوفان، لأن الصبر الذي تفاخرت به الحكومة لدى المصريين قد ينفد رصيده في أي لحظة مع توالي الأزمات، وما لم يتبن الرئيس السيسي خطة عاجلة للإنقاذ سوف تكون المشاكل عصية على علاجها، لأن الرهانات على المساعدات الاقتصادية، العربية والأجنبية، لم تأت بنتائج على المستوى المناسب.
شكاوى المصريين من الجمود بدأت تتسع بما يمثل خطورة الفترة المقبلة، لأن الحالة الوحيدة التي يتم فيها القبول به هي أن تتراجع الأزمة الاقتصادية وملحقاتها الاجتماعية
وتحدثت تقارير عن رفض الكثير من الشخصيات المصرية تولي مناصب كبيرة الفترة الماضية، وهي دلالة على أن التركة مخيفة ولا أحد يريد تحمل مسؤولية إنقاذها، أو أن الهامش المتاح للحركة أمام المسؤول الجديد لن يمكنه من التصرف بالصورة التي يريدها، وفي الحالتين يتطلب الموقف حنكة ورشادة من القيادة السياسية لإحداث تغيير كبير في المنظومة الحالية والخروج من الدائرة التي أدت إلى “التكلس العام”.
لم تعد حالة التكلس تهم النخبة والأحزاب والقوى السياسية والتضييق في الفضاء العام لأن وسائل الحركة أمامها فسيحة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي التي تستوعب الكثير من هواجسها وهمومها، بل أخذ الشارع المصري يشعر بها وتنتقل إليه المخاوف من تبعاتها بعد أن فقد ثقته في ما يرد إليه من طنين الكثير من وسائل الإعلام.
تأتي خطورة الكلمات التي كتبها محمد نصر علّام من هذه الزاوية، فصرخة التحذير الموجهة لمن يهمهم الأمر تفرض التعامل معها على أنها مؤشر إلى ما يعتمل في عقول الناس وضمائرهم، وأبعد ما تكون عن المكايدة، حيث كان صداها كبيرا، ومحتواها مس وجعا مزمنا يحتاج إلى صرخة قوية للنهضة من داخل النظام لإخماد بركان قد ينفجر ويصيب الجميع بأذى أخفقت جماعة الإخوان ومن لفوا لفها في تفجيره.
العرب