في خضم التوترات الإقليمية مع فرنسا وإيران، يمكن أن يتسبب انخراط تركيا في إعادة إعمار مطار الموصل في التسبب بالمتاعب. ومع ذلك، يمثل هذا الانخراط أيضًا رمزًا للعلاقات الاقتصادية المتنامية بين تركيا والعراق.
* *
في أعقاب عمليات الهدم والدمار الذي خلّفه تنظيم “داعش”، حاولت تركيا جاهدة المشاركة في إعادة إعمار العراق.
وعلى الرغم من المنافسة الفرنسية التي واجهتها تركيا مؤخرًا في مناقصة إدارة مشروع إعادة إعمار “مطار الموصل الدولي”، الذي دُمر منذ خمس سنوات في المعركة التي طردت تنظيم “داعش” من المدينة، فازت تركيا بشكل غير متوقع بعقد مشروع إعمار المطار.
أطلق رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في 10 آب (أغسطس) إعادة إعمار “مطار الموصل الدولي” بعد أن أعلن محافظ نينوى، نجم الجبوري، أن أعمال التصليح ستُمنَح لـ”الشراكة ذات الخبرة الدولية” التي تجمع شركتين تركيتين هما “تي. أي. في. للإعمار”، و”77 للإعمار”.
وبالنظر إلى الأهمية السياسية والجيوسياسية التي أولتها تركيا للموصل، فضلًا عن نظرة العراقيين السلبية إلى اهتمام تركيا بالمدينة، يتمتع المشروع بقيمة رمزية تتجاوز كونه مشروعًا لإعادة الإعمار في حقبة ما بعد “داعش”.
استعادت القوات العراقية والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة السيطرة على الموصل في العام 2017 بعد ثلاث سنوات من احتلال “داعش” للمدينة.
وفقدت الموصل -التي يبلغ عدد سكانها 1.5 مليون نسمة- مطارها ومباني وبنى تحتية أخرى عدة خلال غزو تنظيم “داعش” والمعارك اللاحقة.
أما الآن، وبفضل الدعم الدولي الكبير، فتوشك المدينة على استعادة مظهرها الذي سبق حقبة “داعش”. ومع ذلك، لم تكن فترة إعادة الإعمار تسير بسلاسة، إذ تنافست دول عدة على عقود الإعمار المربحة.
على سبيل المثال، أصرّت تركيا بشدة على إصلاح مطار الموصل منذ طرد تنظيم “داعش”. ويُعزى ذلك بدرجة كبيرة إلى القرب الجغرافي للموصل من المناطق الداخلية السياسية والاقتصادية في تركيا.
وفي المراحل الأولى، كانت الشركتان التركيتان “كورك للإنشاءات”، التي تتولى عادةً مشاريع الإعمار في إقليم كردستان العراق، و”كالييون القابضة”، التي تشارك في بناء “مطار إسطنبول” ومشاريع المترو، مرشحتين لمشروع إعادة إعمار مطار الموصل.
لكنّ الشركتين واجهتا مقاومةً منذ البداية، لا سيما في ما يتعلق باقتراحهما لنموذج البناء والتشغيل والنقل -وهو نموذج يخوّل الشركتين ببناء المطار أولًا ثم إدارته بعد ذلك قبل تسليمه إلى الحكومة العراقية.
وفي إطار هذا النموذج، كانت الشركتان تتوقعان أمرين: أن توفر القوات العراقية أمن المطار، وأن يضمن الجانب العراقي خمسين ألف مسافر شهريًا لمدة عشرين عامًا.
وعلى الرغم من شيوع اقتراح البناء والتشغيل والنقل هذا في تركيا، لم ترحب به الحكومة العراقية، التي كان سيُطلب منها دفع ما يقرب من 25 دولارًا عن كل راكب إذا تعذّر الوصول إلى الهدف.
وخلافًا للاقتراح التركي، عرضت الشركة الفرنسية “إيه. دي. بي. آي. للهندسة” تنفيذ المشروع كجهة مقاوِلة فحسب، بدلًا من تشغيل المطار بعد ذلك.
وهذه الشركة معروفة وتُشارك بالفعل في تطوير بغداد والبصرة وبناء مطار دهوك. وبنما توقعت تركيا أن تستلم شركتاها المشروع، خاب أملها عندما سمحت الحكومة العراقية لـ”سلطة الطيران المدني العراقي” بالتفاوض وتوقيع عقد مع شركة “إيه. دي. بي. آي. للهندسة” في كانون الثاني (يناير) 2021.
جاء اتفاق العراق مع شركة الشركة الفرنسية على حساب شركتَي “كورك للإنشاءات” و”كاليبون القابضة” بمثابة صدمة، لا سيما مع زيارة رئيس الوزراء الكاظمي إلى أنقرة في كانون الأول (ديسمبر) 2020، والمواجهة المتوترة بالفعل التي تحصل بين فرنسا وتركيا في الشرق الأوسط. وبدا علنًا أن السفير التركي آنذاك في العراق، فاتح يلدز، تقبّلَ الوضع على مضض قائلًا: “يبدو أن جهة أخرى ستتولى هذا المشروع”.
مع ذلك، سرعان ما عاد العقد إلى تركيا في الأشهر اللاحقة. وأفاد مصدر موثوق طلب عدم الكشف عن هويته بأن التحول من الشركة الفرنسية إلى شركتين تركيتين في اللحظة الأخيرة كان سببه إصرار بعض الجهات الفاعلة المحلية في الموصل ورئيس الوزراء الكاظمي.
ويبدو أن هذه الجهات الفاعلة السياسية العراقية أخذت زمام المبادرة لتسليم المشروع إلى هيئات تركية في اللحظة الأخيرة سعيًا إلى تعزيز العلاقة العراقية التركية.
إضافة إلى التبعات الإقليمية الأكبر للعقد التركي، يُعتقَد أن نموذج القرض الفرنسي اعتُبر في النهاية غير مناسب. فقد عرضت أيضًا الشركتان التركيتان إمكانية بناء المطار بتكلفة أقل، ما جعل الجانب التركي خيارًا أكثر جاذبية بالنسبة للعراق.
وقال نائب الموصل، لقمان الرشيدي: “… منعنا المشروع من الذهاب إلى الفرنسيين لأنهم أرادوا تنفيذه مقابل قرض. وفي اجتماعنا مع رئيس الوزراء، ذكرنا أن الموصل لها ميزانيتها الخاصة، وأنه لا داعي لتنفيذ المشروع بالائتمان”.
أُشير أيضًا في العراق إلى أن الولايات المتحدة لم تكن مرتاحة لتدخل فرنسا في الموصل، ومن هنا جاء القرار النهائي بالتوقيع مع شركتَي “تي. آي. في. للإعمار” و”77 للإعمار”.
ويرى بعض المراقبين أن تصرفات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد انسحاب القوات الأميركية من المنطقة تشير إلى وجود مصلحة في تحويل الفراغ الذي قد ينشأ في السلطة إلى فرصة لتعزيز النفوذ الفرنسي في العراق والشرق الأوسط. وقام ماكرون بزيارتين إلى العراق في أيلول (سبتمبر) 2020 وآب (أغسطس) 2021، وذلك في غضون عام بعد إعلان الولايات المتحدة عن قرار خفض عديد قواتها في البلاد.
على غرار الكاظمي، فضّلت الولايات المتحدة على الأرجح زيادة النفوذ التركي، لا سيما مع وجود الميليشيات المدعومة من إيران التي تحافظ على وجود نشط في الموصل. وعلى الرغم من عدم ارتياح إيران وجماعات الميليشيات المدعومة منها في الموصل للتدخل الفرنسي المتزايد في العراق، فإنها تفضّل فوز الشركات الفرنسية بمناقصة المطار، حيث تعتبر أن فرنسا هي الأقل شرًا مقارنةً بتركيا.
مع تصاعُد التوترات في ظل التنافس المرير بين تركيا وإيران، أصبحت الموصل موقعًا مهمًا جدًا يأمل البلدان ممارسة نفوذهما فيه.
وعلى الرغم من أن دعم إيران لميليشيات الموصل قد منحها أفضلية، تأمل تركيا في إضعاف نفوذ إيران باستخدام روابطها التاريخية بالموصل وعلاقتها مع المجتمع السني.
وفي السنوات الأخيرة، كثّفت تركيا هجماتها على بعض جماعات الميليشيات مثل “حزب العمال الكردستاني” الذي صنفته تركيا والولايات المتحدة منظمة إرهابية في شمال سورية وشمال العراق.
وغالبًا ما وحّدت هذه الميليشيات جهودها مع الجماعات المدعومة من إيران لاستهداف هذه القوات.
وبذلك، أصبح مشروع “مطار الموصل” مسرحًا آخر لمعارك إقليمية أكبر وأوسع إطاراً -ليس بين تركيا وفرنسا فحسب، بل بمشاركة الولايات المتحدة وإيران أيضًا.
تجدر الإشارة أيضًا إلى نجاح تركيا في الحصول على مشروع المطار، لأنه يأتي في وقتٍ بلغت فيه المشاعر المعادية لتركيا ذروتها في العراق، خاصةً بعد هجوم تموز (يوليو) الذي أودى بحياة تسعة من المصطافين في زاخو، شمال العراق.
ويلوم العراقيون تركيا إلى حد كبير على الهجوم، مع أن أنقرة نفت مرارًا وتكرارًا مسؤولية قواتها عنه.
مع ذلك، لم تطغَ في النهاية هذه العقبة السياسية والعقبات المتعددة الأخرى التي سبقتها على حسنات العقد التركي في الجدال الدائر حول المطار.
وتملك تركيا مسبقاً مصلحة اقتصادية قوية في العراق، إذ يتجاوز حجم التجارة حالياً بين العراق وتركيا 20 مليار دولار، وتعمل في البلاد مئات الشركات التركية، بما فيها الشركات النشطة للغاية في مجال البناء.
بعد التعهد بتقديم قروض بقيمة 5 مليارات دولار في مؤتمر كويتي لدعم العراق في العام 2018، قدّمت تركيا عددًا من المقترحات الأخرى.
وشملت المقترحات ترميم مطارَي الموصل وكركوك؛ وفتح معبر حدودي جديد؛ وبناء خط سكة حديدية بطول 570 كيلومترًا يربط الموصل ببغداد؛ وتحديث البنية التحتية للري في العراق؛ وحتى مشاركة الشركات التركية في بناء خطوط السكك الحديدية لميناء الفاو في جنوب العراق.
عندما يتعلق الأمر بالمشاريع الكبرى مثل إعادة إعمار مطار الموصل، من المعلوم جيدًا أن المبادرات الدبلوماسية والسياسية غالبًا ما تؤثّر في القرار النهائي.
وتُظهِر حقيقة فوز تركيا في نهاية المطاف بمناقصة المطار أن إمكانات أنقرة السياسية والاقتصادية ما يزال لها وزن في أذهان المسؤولين العراقيين. وإلى جانب الوجود المادي لتركيا في البلاد، تبقى قوتها الناعمة عاملًا مهمًا في ديناميات العراق. كما أن قدرة أنقرة على تأمين مشروع المطار تمنحها الأمل في علاقات مستقبلية أفضل ومشاريع جديدة في البلاد.
بطبيعة الحال، ما تزال مصالح إيران المتضاربة مع المصالح التركية تلعب دورًا كبيرًا، خاصةً بينما يتخبط العراق في أزمته السياسية المحلية الكبيرة.
وما تزال تركيا تواجه نقاط ضعف خطيرة عندما تنافس على فرض النفوذ في الموصل وأماكن أخرى، ولا شك في أن مشروع المطار سيتأثر بهذه الوقائع.
وعلى وجه التحديد، ستواجه تركيا صعوبات متواصلة في الحفاظ على أمن مشاريعها ووجودها الأوسع نطاقًا في الموصل.
ومن المحتمل أن يصبح مشروع المطار هدفًا لجماعات الميليشيات، إلى جانب القاعدة العسكرية التركية المتمركزة في الموصل والقنصلية التركية.
مع أن أزمة الحكومة في العراق أوقفت ظهور ردود الفعل الفورية على نجاح تركيا في تأمين عقد المطار في الوقت الحالي، ما تزال تداعيات المشروع في سياق الفوضى السياسية في البلاد وتزايُد التوترات الإقليمية قائمة.
وعلى الرغم من نجاح تركيا مؤخرًا، تشير الاتجاهات الأوسع نطاقًا إلى أن الضغط ضد حصولها على مناقصة المطار ليس العقبة الأخيرة التي سيتعين على تركيا تجاوزها في إطار جهودها الرامية إلى تنمية نفوذها الاقتصادي في العراق.
محمد آلاجا