ما يدفع إلى التقارب الروسي – التركي هو نفسه ما يهدد علاقتهما

ما يدفع إلى التقارب الروسي – التركي هو نفسه ما يهدد علاقتهما

خلال السنوات الماضية كانت روسيا وتركيا على طرفي نقيض في سوريا وليبيا وأذربيجان، لكن الوضع تغير الآن في ظل الحرب على أوكرانيا، حيث دفعت الحاجة المتبادلة إلى تمتين العلاقات، لكن العناصر التي تجمع الآن يمكن أن تكون في المستقبل عنصرا مغذيا لتنافر المصالح بين البلدين.

موسكو/ أنقرة – تدفع الحرب المستمرة في أوكرانيا روسيا وتركيا إلى التقارب، لكن المزالق قد تعرقل العلاقات العميقة بينهما، فرغم حاجة كل طرف إلى الآخر لحل أزماته خاصة في أوكرانيا وسوريا وموضوع الغاز، لكن الخلافات سرعان ما تطفو.

التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سوتشي لمدة أربع ساعات في الخامس من أغسطس، وهو اللقاء الثاني خلال شهر.

وتعكس الاجتماعات الأخيرة بين الرئيسين القيمة التي تراها موسكو وأنقرة في علاقتهما الثنائية، حيث تعمقت منذ غزو أوكرانيا في فبراير الماضي. وتجنبت تركيا حتى الآن فرض عقوبات أو اتخاذ أية إجراءات ملموسة أخرى ضد روسيا رغم إدانتها الأولية لغزو أوكرانيا. وقد مكّن هذا أنقرة وموسكو من الحفاظ على علاقاتهما الاقتصادية والسياسية وحتى تعزيزها طوال فترة الحرب.

واتفق أردوغان وبوتين خلال اجتماع سوتشي على تعميق التعاون الثنائي في قطاعات المال والزراعة والبناء والتجارة والطاقة.

التداعيات المالية لحرب أوكرانيا تزيد من أهمية التقارب التركي – الروسي، حيث تحولت أنقرة إلى منفذ لرؤوس الأموال الروسية

وصوتت تركيا في فبراير لصالح قرار الأمم المتحدة الذي يدين الغزو الروسي لأوكرانيا ووصف أردوغان هذا الغزو بأنه “غير مقبول”. لكن أنقرة تجنبت معاقبة موسكو منذ ذلك الحين. كما قالت تركيا إنها ستسمح للسفن الحربية الروسية المتجهة إلى أوكرانيا بالعودة إلى قواعدها المسجلة لعبور مضيق البوسفور، رغم تهديد أنقرة في فبراير بمنع مثل هذه السفن متذرعة بأحكام اتفاقية مونترو لسنة 1936. كما سمحت تركيا للطائرات الروسية بالتحليق عبر مجالها الجوي طوال فترة الصراع في أوكرانيا.
وتزيد التداعيات المالية لحرب أوكرانيا من أهمية تركيا وروسيا المباشرة لبعضهما البعض. ومن خلال التخلي عن العقوبات، جعلت تركيا نفسها منفذا رئيسيا لبعض رؤوس الأموال الروسية التي لا يمكن استثمارها في أي مكان آخر.

ومن المحتمل أن تنظر روسيا إلى أي معاملات مالية مع تركيا على أنها طريقة عملية لنقل الأموال طالما ظلت أنقرة مندمجة بشدة مع الأنظمة المالية الغربية. وتحتاج تركيا، من جانبها، أيضا إلى جميع العملات الأجنبية التي يمكن أن تحصل عليها لأنها تخوض أزمتها الاقتصادية الأليمة في الداخل، مما يجعلها مهتمة أكثر بالحفاظ على الوصول إلى العاصمة الروسية.

وقد يؤدي الحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع روسيا وسط الأزمة الأوكرانية الحالية إلى تعريض تركيا نظريا لعقوبات غربية. ومع ذلك، فإن التعقيدات السياسية لعزل زميل عضو في الناتو ستستمر في ردع الولايات المتحدة وأوروبا عن فرض عقوبات على أنقرة.

وأكدت جمعية الصناعة والأعمال التركية، أكبر اتحاد لشركات الأعمال في تركيا الأربعاء أنها تلقت خطابا من وزارة الخزانة الأميركية تحذرها فيه من احتمال فرض عقوبات إذا واصلت التعامل مع روسيا.

ويتزايد قلق واشنطن من استخدام الحكومة والشركات الروسية تركيا للالتفاف على القيود المالية والتجارية الغربية المفروضة رداً على غزو الكرملين لأوكرانيا قبل ستة أشهر.

ومثّلت الشحنات الروسية 3.9 في المئة من إجمالي صادرات تركيا في يوليو، فيما يشكّل ارتفاعا من 2.6 في المئة في يوليو الماضي. وبينما تظل أوروبا الشريك التجاري الأكبر لتركيا حتى الآن، فإن الارتفاع الطفيف في الصادرات الروسية خلال العام الماضي قد يشير إلى تطوير سوق موازية باستخدام الشركات التركية كوسيلة للتجارة مع روسيا.

واعتمدت خمسة بنوك تركية نظام المدفوعات الروسي مير في مطلع أغسطس. كما وافقت تركيا مؤخرا على دفع بعض واردات الطاقة الروسية بالروبل.

كما تواصل تركيا استيراد كميات كبيرة من الطاقة من روسيا عبر خطوط أنابيب مثل ترك ستريم وبلو ستريم. وقدمت روسيا 45 في المئة من الغاز الطبيعي التركي في 2021، مما يؤكد اعتماد تركيا المستمر على الطاقة الروسية.

وتأرجحت روسيا وتركيا بين التنافس والتعاون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى لعدة قرون عندما كانتا إمبراطوريتين تتجاوزان المساحة التي يسيطر البلدان عليها الآن. واليوم، يقود البلدين رئيسان يتبنيان رؤى السيطرة أو على الأقل التأثير على المزيد من تلك الأراضي التي كانت تابعة لبلديهما من قبل. لكن هذه الرؤى تتصادم بشكل دوري. وتدعم روسيا وتركيا اليوم الأطراف المتصارعة في سوريا وليبيا. واصطدمت مبيعات الأسلحة التركية لأذربيجان بدعم روسيا لأرمينيا في نزاع قرة باغ.

ووفقا لتقرير أصدره مركز ستراتفور للدراسات والأبحاث الجيوسياسية الإستراتيجية تستفيد كل من تركيا وروسيا أيضا من استخدام الآخر كمصدر للضغط السياسي. فطالما استعانت روسيا بصناعاتها العسكرية وطاقتها الضخمة وتاريخها الطويل في مواجهة النفوذ الأميركي والأوروبي على تركيا. لكن عزلة روسيا الدولية بسبب حرب أوكرانيا تحول الآن ديناميكية القوة لصالح تركيا من خلال زيادة أهمية أنقرة بالنسبة إلى موسكو.

بالنسبة إلى روسيا، يمكن أن تساعد العلاقات المتزايدة مع تركيا في استبدال بعض الروابط الاقتصادية والسياسية التي خسرتها بسبب العقوبات الغربية. كما أن علاقات تركيا القوية مع الاتحاد الأوروبي تمنح أنقرة القدرة على التوسط بين روسيا وخصومها الغربيين، كما يتضح من دور تركيا في صفقة تصدير الحبوب الأخيرة بين موسكو وكييف. بالإضافة إلى ذلك، ومن خلال الحفاظ على سيطرة حكومة صديقة على مضيق البوسفور، تساعد العلاقات الوثيقة مع تركيا روسيا على ضمان احتفاظها بالوصول الكامل إلى أي منطقة جديدة في البحر الأسود يتم الاستيلاء عليها خلال الحرب المستمرة في أوكرانيا.

ووقّعت روسيا وأوكرانيا في الثاني والعشرين يوليو صفقة في تركيا للسماح بتصدير الحبوب الأوكرانية من الموانئ المحاصرة، وهو ما عزز دور تركيا في التوسط في المحادثات التي أدت إلى الاتفاق ومكانة أنقرة البارزة على الساحة العالمية، ويشير هذا على الأرجح إلى رغبة تركيا في التوسط في محادثات السلام المستقبلية بين موسكو وكييف.

ونفت هيئة الصناعات الدفاعية التركية مؤخرا تصريحات أدلى بها مسؤول روسي بأن تركيا طلبت نظام صواريخ روسيا آخر من طراز إس – 400. ودفع شراء تركيا الأول للمنظومة الدفاعية الروسية في 2017 الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات.

تركيا تواصل استيراد كميات كبيرة من الطاقة من روسيا عبر خطوط أنابيب مثل ترك ستريم وبلو ستريم

ويقول مراقبون إن نفي أنقرة أنها تسعى لشراء نظام آخر من هذا القبيل يعكس إستراتيجيتها في الحفاظ على التعاون العسكري مع موسكو مع تجنب إثارة غضب الغرب.

ومع ذلك، تحمل عدة تطورات القدرة على تعطيل العلاقات الثنائية العميقة بين تركيا وروسيا، بما في ذلك عملية عسكرية تركية جديدة شمال سوريا. ومنذ أشهر، كانت تركيا تهدد بتوسيع منطقتها العازلة عسكريا على طول الحدود السورية على أمل إعادة توطين ما يصل إلى مليون لاجئ سوري هناك ومنع المسلحين الأكراد من دخول تركيا، وستضع مثل هذه العملية العسكرية القوات التركية على مقربة من القوات الروسية والقوات التي تدعمها في شمال سوريا مما يزيد من خطر وقوع اشتباك عسكري شبيه بحادث إسقاط الطائرة المقاتلة الروسية في 2015 على طول الحدود التركية – السورية، وهو ما أجج صراعا دبلوماسيا كبيرا بين موسكو وأنقرة.

وإذا واجه الجيش الروسي مزيدا من الانتكاسات في أوكرانيا وبدا ضعيفا على المسرح العالمي، فقد تجادل بعض القوى السياسية في تركيا بأنها ستستفيد أكثر من النأي بنفسها عن روسيا. وبالمثل، إذا بدأت روسيا في التركيز على الداخل أو أصبحت أكثر تشتتا بسبب حرب أوكرانيا، فقد تستفيد تركيا من خلال السعي لاستبدال النفوذ الروسي جزئيا في القوقاز وآسيا الوسطى، مما سيؤدي بدوره إلى تدهور العلاقات.

وإذا تولت روسيا السيطرة على المزيد من الأراضي على طول البحر الأسود نتيجة لحرب أوكرانيا، فمن المحتمل أن تشعر تركيا بالتهديد من هذا التعدي، لأنها تسيطر على منفذ البحر الأسود وتعتمد عليه في إنتاج الطاقة. وقد يؤدي ذلك إلى رد أنقرة بمنع السفن الروسية من عبور مضيق البوسفور. ويمكن أن تقطع تركيا أيضا بعض علاقاتها الاقتصادية مع موسكو، والتي تعتبر بالغة الأهمية بالنسبة إلى روسيا في الوقت الذي تحاول فيه الالتفاف على العقوبات الغربية.

من جهة أخرى، إذا تصاعد الصراع ضد المسلحين الأكراد في جنوب شرق تركيا أو نما تهديد متشدد آخر داخل الأراضي التركية، فمن المرجح أن تعتمد تركيا بشكل متزايد على الناتو للحصول على الدعم من خلال مبيعات الأسلحة أو تبادل المعلومات الاستخباراتية. وإذا بدأ المسلحون غير الأكراد في تهديد أمن تركيا القومي، فمن المرجح أيضا أن تتلقى أنقرة دعما مباشرا من دول الناتو الأخرى. ويمكن أن يزعج كل من هذين السيناريوهين، وخاصة الأخير، علاقات أنقرة الوثيقة مع روسيا.

العرب