تونس والمغرب: من وراء تأجيج التوتر في شمال أفريقيا

تونس والمغرب: من وراء تأجيج التوتر في شمال أفريقيا

توتر جديد خيم على العلاقات المغاربية في منطقة شمال أفريقيا عشية انعقاد “قمة طوكيو الدولية للتنمية في أفريقيا” (تيكاد 8) التي استضافتها تونس في 27 و28 أغسطس الماضي.

استدعت المملكة المغربية سفيرها في تونس للتشاور بعد أن قام الرئيس التونسي قيس سعيد باستقبال زعيم جبهة بوليساريو الانفصالية وقبول مشاركة الجبهة في أشغال القمة أسوة بباقي دول القارة الأفريقية، رغم معارضة اليابان.

وأكدت وزارة الخارجية المغربية في بيان أصدرته يوم الجمعة 26 أغسطس 2022 أن “المغرب قرر عدم المشاركة في القمة الثامنة لمنتدى التعاون الياباني – الأفريقي (تيكاد)،(…)، والاستدعاء الفوري” لسفير المغرب بتونس للتشاور.

استقبال الرئيس التونسي لزعيم جبهة بوليساريو هو تراجع عن موقف الحياد الذي درجت تونس على اتباعه منذ سبعينات القرن الماضي، قرار اتخذه الرئيس التونسي نزولا عند حتمية الضغوط الاقتصادية التي تمر بها بلاده

ثم أضافت الوزارة “بعد أن ضاعفت تونس مؤخرا من المواقف والتصرفات السلبية تجاه المملكة المغربية ومصالحها العليا، جاء موقفها في إطار منتدى التعاون الياباني – الأفريقي ليؤكد بشكل صارخ هذا التوجه العدائي”.

وجاء في البيان “قررت تونس، ضدا على رأي اليابان، وفي انتهاك لعملية الإعداد والقواعد المعمول بها، بشكل أحادي الجانب، دعوة الكيان الانفصالي”، وإن الاستقبال الذي خصصه رئيس الدولة التونسية لزعيم الميليشيا الانفصالية “يعد عملا خطيرا وغير مسبوق، يسيء بشكل عميق إلى مشاعر الشعب المغربي، وقواه الحية”.

يتضح إذن من هذا البيان أن العلاقات المغربية – التونسية دخلت مرحلة توتر دبلوماسي، توتر يأتي ليُضاف إلى الأزمة التي تعرفها العلاقات المغربية – الجزائرية. وكلتا الأزمتين مصدرهما وسببهما واحد، وهو رعاية النظام الجزائري لجبهة بوليساريو الانفصالية ودعمها بالمال والسلاح والتدريب.

لقد هيمنت مناكفة الجزائر لمصالح المغرب، وعرقلتها لكل مجهودات حل قضية الصحراء، على تاريخ العلاقات الدبلوماسية المغاربية وحالتَا دون اتحاد دول المنطقة وصارتا تعرضان أمنها للخطر. لكن هنا أسئلة كثيرة يجب الإجابة عليها للوقوف على مكمن الخطر الذي تشكله محاولة الجزائر الهيمنة على المنطقة وقيادتها إلى ما يخدم مصالح الطغمة العسكرية التي تحكمها.

1 – هل كان قرار الرئيس التونسي باستقبال زعيم بوليساريو قرارا سياديا؟

من يتابع الموقف التونسي تجاه قضية الصحراء سيدرك أن استقبال الرئيس التونسي لزعيم جبهة بوليساريو هو تراجع عن موقف الحياد الذي درجت تونس على اتباعه منذ سبعينات القرن الماضي، قرار اتخذه الرئيس التونسي نزولا عند حتمية الضغوط الاقتصادية التي تمر بها بلاده ورضوخا لضغوط جزائرية كبيرة، بدأت بالترغيب المالي أو عبر تعمد زعزعة الاستقرار وإضعاف موقف الرئيس سعيد في مواجهة خصومه السياسيين، الذين يعارضون حله للبرلمان وانقلابه على المسار الديمقراطي الذي أجمع عليه التونسيون بعد سنة 2011.

لا يمكن لأي مراقب لمسار العلاقات التونسية – المغربية أن يجد أي مبرر يدفع تونس إلى تبني الموقف الجزائري تجاه قضية الصحراء دون تحديد نتائج هذا الموقف وما ستجنيه من ورائه.

لعل حاجة الرئيس قيس سعيد إلى تثبيت سلطته وقمع معارضيه والهيمنة على القرار السياسي الوطني، كانت الدافع إلى اختياره الاصطفاف مع الجزائر ضد المغرب، وهو موقف ليس وليد اللحظة، بل بدأت ملامحه تنكشف منذ الزيارة التي قام بها الرئيس الجزائري إلى تونس ثم زيارة قيس سعيد إلى فرنسا.

2 – هل تخدم الجزائر مشروعا فرنسيا هدفه ضرب الاستقرار في شمال أفريقيا وقطع الطريق على المصالح الأميركية؟

مباشرة بعد اندلاع الأزمة الروسية – الأوكرانية وجدت فرنسا نفسها أمام تحديات جيوسياسية واقتصادية معقدة، فالطريق إلى موسكو لم يعد ممكنا ما لم يأت ضمن تنسيق مع الولايات المتحدة وباقي الدول الغربية، كما لم تعد باريس تملك خيارات كثيرة بشأن الطاقة (الغاز خاصة)، وإذا أضفنا إلى كل هذا تدهور العلاقات الجزائرية – الإسبانية، بعد اعتراف إسبانيا بسيادة المغرب على الصحراء، سيكون من السهل إيجاد تفسير مقنع لتلاقي المصالح الفرنسية – الجزائرية.

ففرنسا صارت اليوم في حاجة إلى الغاز الجزائري أكثر من أي وقت مضى والجزائر في حاجة إلى تعويض إسبانيا بزبون أوروبي. وفرنسا تدرك أن ثمن الغاز الجزائري لن يكون دائما ماديا، بل هو سياسي أيضا وفي الغالب مناوئ للمصالح المغربية، سرا وبطرق ملتوية.

لا تنظر باريس بعين الرضاء إلى التقارب التي تعرفه العلاقات المغربية – الأميركية، كما لم يرضها اعتراف إسبانيا وواشنطن بمغربية الصحراء، وباتت تجد في الجزائر خير من ينوب عنها في عرقلة الاستقرار في شمال أفريقيا وقطع الطريق على الانخراط الأميركي في القارة الأفريقية عبر البوابة المغربية.

إن غياب المغرب عن القمة اليابانية – الأفريقية يخدم بالدرجة الأولى مصالح فرنسا التي لن يرضيها تسلل منافس قوي مثل اليابان إلى الأسواق الأفريقية عموما والمغربية على وجه التحديد.

باريس إذن تريد فرض نفسها على دول المنطقة كخيار اقتصادي وحيد دون منافس، وهذا مفهوم اقتصاديا، لكنها لا تملك من أدوات الضغط سوى الورقة الحقوقية ضد قيس سعيد أحيانا وأحيانا أخرى ضد الرئيس الجزائري، بينما تتمسك بموقفها الضبابي تجاه قضية الصحراء لتقايض به المغرب والجزائر على حد السواء.

فرنسا تدرك أن ثمن الغاز الجزائري لن يكون دائما ماديا، بل هو سياسي أيضا وفي الغالب مناوئ للمصالح المغربية، سرا وبطرق ملتوية

فإيمانويل ماكرون خلال ندوته الصحفية مع الرئيس الجزائري لم يذكر قضية الصحراء، ما يفسر عدم رغبته الخروج من دائرة الغموض تجاه قضية الصحراء والحفاظ على خط الرجعة مع الرباط التي أعلن عن نيته زيارتها في شهر أكتوبر المقبل.

هكذا إذن تشير كل المؤشرات إلى التورط الخفي والذكي لفرنسا واستغلالها للصراعات المغاربية لضمان استمرار الاستفادة من مستعمراتها السابقة.

هي سياسة ربما لا تخدم مبادئ الجمهورية ولا تتفق مع شعارات الديمقراطية وبالتأكيد لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح شعوب المنطقة ومستقبلها.

3 – هل أصبح الغاز الجزائري عملة لشراء المواقف السياسية؟

ولا مجال للاستغراب، فالنظام العسكري الجزائري الذي يعيش قطيعة طبقية مع شعبه ويمارس عمليات نهب واستغلال لثروات البلاد، لم يعد يستطيع مجاراة مبادرات العاهل المغربي الملك محمد السادس تجاه دول أفريقيا كما لم يتمكن هذا النظام من بلورة موقف واضح تجاه المساعي الأممية لإيجاد حل واقعي وجدي وقابل للتطبيق لقضية الصحراء، لذا يعمد حكام الجزائر إلى اتباع تكتيك العرقلة والحيلولة دون استقرار المنطقة، وراهنوا على شراء المواقف السياسية بالغاز وتبذير ثروات الشعب الجزائري، بدل الاستفادة منها في تنمية البلاد وتقليص الهوة الكبيرة بين الطبقة العسكرية الحاكمة وعموم الشعب الجزائري المستضعف.

لقد أدرك حكام الجزائر قيمة الغاز في الظرفية السياسية الدولية الحالية وأصبحوا أكثر تصميما على تحويله إلى سلاح ضد المغرب، ولن يتوقفوا عن استعماله لتحقيق أطماعهم التوسعية في منطقة شمال أفريقيا، فشهية الأنظمة العسكرية تجاه السيطرة كانت ولا تزال هي العقيدة التي تؤطر أسلوبها في التحكم واستغلال آلام الشعوب، وفي المقدمة عشرات الآلاف من المحتجزين في مخيمات تندوف.

إن الجزائر اليوم وبدفعها الرئيس قيس سعيد نحو الانحراف السياسي ومعاداة الديمقراطية وإقصاء المؤسسات الدستورية التونسية مقابل المال والغاز الجزائري، تدفع بالمنطقة نحو المصير المجهول وتفتح أبواب شمال أفريقيا في وجه كل أنواع التطرف، غير عابئة بالنداءات الأميركية المتكررة الداعية إلى ضرورة الحفاظ على استقرار منطقة شمال أفريقيا، خدمة لمصالح وأمن دول المنطقة وبقية العالم.

المغرب حليف قديم وصديق وفيّ للولايات المتحدة، وقد أثبت هذا البلد بقيادة وحكمة ملكه أنه في صف مصالحها الوطنية. لكن السؤال الأكبر الذي تغيب الإجابة عنه هو:

هل كانت إدارة بايدن تعلم مسبقا أن النظام الجزائري يعمل على فرض زعيم بوليساريو على القمة اليابانية – الأفريقية بتونس؟

إذا كان الجواب هو نعم، وهو احتمال قائم، فكيف يمكن تفسير أن إدارة بايدن لم تستبق هذه الخطوة المعادية لبلد صديق وحليف قديم مثل المغرب؟

أما إذا لم تكن واشنطن تعلم بخطوة الرئيس سعيد، فالأمر خطير بالنسبة إلى دولة مثل الولايات المتحدة، اذ كيف تغفل عين دبلوماسيتها عن مثل هذا الحدث.

حكام الجزائر أدركوا قيمة الغاز في الظرفية السياسية الدولية الحالية وأصبحوا أكثر تصميما على تحويله إلى سلاح ضد المغرب

والغريب أن تونس تقع اليوم تحت مجهر الدوائر السياسية الأميركية؛ فقبل أيام من انعقاد القمة اليابانية – الأفريقية قام أعضاء من مجلس الشيوخ والنواب الأميركي بزيارة إلى تونس والتقوا خلالها بالرئيس سعيد، وجاءت هذه الزيارة لتواكب بعض التقارير الأميركية التي تفيد بأن الولايات المتحدة ربما تقوم بمنع مساعدة عن تونس تقدر بـ500 مليون دولار.

وفي 28 يوليو 2022 عبرت وزارة الخارجية الأميركية، في بيان أصدرته، عن قلقها تجاه مسار التعاطي الديمقراطي لتونس:

“شهدت تونس تآكلًا مقلقًا للمعايير الديمقراطية على مدار العام الماضي وعكست العديد من المكاسب التي حققها الشعب التونسي بشق الأنفس منذ عام 2011. منذ 25 يوليو 2021، أثار تعليق الحكم الدستوري، وتوطيد السلطة التنفيذية، وإضعاف المؤسسات المستقلة تساؤلات عميقة حول المسار الديمقراطي لتونس، سواء داخل البلاد أو على الصعيد الدولي”.

هذه العبارات تؤكد بالملموس أن هناك متابعة أميركية حثيثة لما تشهده تونس برئاسة قيس سعيد، فكيف يمكننا أن نصدق أن الولايات المتحدة بكل أجهزتها وعلاقاتها وإمكانياتها وتقديرات مراقبيها لم تستشعر أن هزة دبلوماسية قادمة وأن علاقات أصدقائها باتت في خطر؟

العرب