ثمة الكثير من المُشترَكات والمُختلَفات، حدّ التناقض، في المواقف والحسابات والأولويات السياسية والاقتصادية الروسية والإيرانية والتركية. مع ذلك، تحافظ موسكو وطهران وأنقرة على تحالف أو لِنقُل على تنسيق وثيق يشمل ملفّات صراعية تنخرط جميعها أو بعضها فيها في ساحات مختلفة.
لتفسير ذلك، يمكن بدايةً العودة إلى التاريخ الحديث للدول الثلاث المعنية، ولسقوط إمبراطورياتها أو الإمبراطوريات التي كانت مركزَها في جغرافيا استمرّت طيلة حقبات طويلة حيّزاً لتوسّعها وانكماشها ولحروبها وتبدّل الحدود الترابية والمائية في ما بينها.
فروسيا شهدت سقوط إمبراطوريّتين حكمتا محيطهما وصهرتاه أحياناً، ولعبتا دوراً مركزياً في العلاقات الدولية على مدى قرون؛ من الإمبراطورية الروسية التي توسّعت في أوروبا وفي آسيا الوسطى وامتدّت من الحدود البحرية مع اليابان شرقاً إلى الأراضي البولونية غرباً وانهارت خلال الحرب العالمية الأولى، إلى الاتحاد السوفياتي الذي حكم من موسكو إمبراطورية تشبه تلك التي أسقطها قادتُه قبل أن تتزايد سطوتها بعد الحرب العالمية الثانية لتشمل أوروبا الشرقية بأكملها. وشكّل سقوط الاتحاد أوائل التسعينات مهانة للروس ومرارةً لطموح إمبريالي صار أعجز من تحقيق تطلّعاته. وفي تلك المهانة وما تلاها من مرارة ومن صعوبة اكتفاء بحدود الدولة – الأمّة تكوّنت البوتينية وحاول صعودها مزاوجة قومية روسية وارثوذوكسية قيصرية بستالينية سياسية عِمادُها قمع عنيف للتمرّد الاستقلالي (الشيشان)، وتدخّل عسكري مباشر في المحيط (جورجيا وأوكرانيا وكازخستان)، وصولاً إلى حربين شاملتين في سوريا لإعلان عودة بالقوة إلى الساحة الدولية، وفي أوكرانيا نفياً لمشروعية وجود كيان وبذريعة تهديد أمريكي وغربي لأمن قومي.
إيران من جهتها لم تتكيّف مع حدودها الوطنية منذ رسمِها بعد سقوط الحكم القجري وصعود رضا خان بهلوي إلى السلطة بُعَيد الحرب العالمية الأولى. فالجموح الإمبراطوري لدى الشاه الجديد ثم لدى ابنه محمد بحجج تاريخية أو تعلّقاً برابطة فارسية أسقط على العلاقات الإيرانية بأفغانستان والعراق والبحرين التباسات وتوتّرات ظلّت حتى العام 1979 سياسية. ثم حوّلت إيديولوجيا «تصدير الثورة» الخمينية بعد إسقاط الشاه، والحرب العراقية الإيرانية الطاحنة التي تبعتها في الثمانينات، الطموحَ الإيراني إياه إلى منطلقٍ لتشكيل تحالفات وقواعد ولاء لطهران في المجتمعات الشيعية في الدول القريبة إلى «الجمهورية الإسلامية» الجديدة، معطوفة على محاولات التأثير السابقة في البلدان حيث أقلّيات الرابطة الفارسية والأثر الفارسي التاريخي. وتكرّس التوسّع السياسي والاستراتيجي الإيراني بعد سقوط نظامَي طالبان في أفغانستان وصدّام حسين في العراق العام 2003، إذ استفادت طهران من الاحتلال الأمريكي والفوضى التي أحدثها لتبسط نفوذها غرباً وتُكمل قوساً استراتيجياً يمرّ ببغداد وبدمشق المحكومة من حليفها الأسد ثم يصل بيروت حيث حزب الله الذي أسّسته ودعمته وتمكّنت عبره من الاشتباك المباشر مع الإسرائيليين، إعلاءً لموقف سياسي – إيديولوجي يوفّر شعبية، ورداً على تهديد تل أبيب لبرنامجها النووي. ولم تكتف إيران بذلك، بل وفّر تمويلها وتسليحها لقوى فلسطينية من جهة ويمنية من جهة ثانية من وضعها في قلب الصراع في فلسطين وعلى تخوم البحر الأحمر المُطلّ على ملاحة حيوية تؤثّر في الاقتصاد العالمي.
أما تركيا، فرغم انكفاءٍ لحدود «وطنية» مستجدّة وحياد صارم فرضهما مصطفى كمال عبر تأسيس الجمهورية عقب الحرب العالمية الأولى وانهيار السلطنة العثمانية، ورغم اندفاعة سياسية وثقافية لاحقة نحو أوروبا والتحاق تلى الحرب العالمية الثانية بـ»حلف شمالي الأطلسي»، فهي ظلّت نتيجة خطابها القومي الرسمي ونتيجة المذابح التي رافقت سقوط العثمانيين متوتّرة في علاقاتها بمحيطها. يسري الأمر بالطبع على أرمينيا السوفياتية ثم المستقلة، ويسري على اليونان ثم قبرص حيث تدخّلت عسكرياً العام 1974، ويسري على سوريا والعراق حيث المشاكل الحدودية وعمق المسألة الكردية التي تمثّل أبرز هواجسها، ويسري على بعض مناطق آسيا الوسطى حيث التماس الجغرافي والاحتكاكات التاريخية بين الإمبراطوريات، وحيث الأقليات القومية الناطقة بالتركية. وقد أضيف إلى كلّ ذلك العام 2002 عنصر شديد الأهمية يرتبط بالهوية الإسلامية التي أعلاها أردوغان وحزبه، أعاد للأولويات التركية وجهة شرقية وجنوبية، وجعل أنقرة تستثمر في ما بقي من آثار الرابطة العثمانية لبناء حضور عربي (بالتعاون مع قطر)، ثم تخطّت ذلك قبل سنوات نحو بناء حضور اقتصادي أفريقي ولعب أدوار وسيطة بين دول ومحاور إقليمية لتظهير نفوذ يتخطّى حدود ما كان سلطنةً لقرون.
ولا شكّ أن مسألة المياه الدافئة والسيطرة على مضيقات وممرّات بحرية تمثّل ماضياً كما حاضراً أولويةً للأطراف الثلاثة لأسباب اقتصادية وجيوسياسية، وتفسّر بدورها جانباً آخر من جوانب التحالف (والتنافس) الراهن في ما بينها.
فالبحر الأسود (وداخله بحر آزوف) يُعدّ منفذ روسيا المائي الوحيد الذي يمكن التعويل الدائم عليه اقتصادياً وعسكرياً، لبلوغه عبر البوسفور ثم الدردنيل البحر المتوسّط (حيث قاعدة موسكو الوحيدة في سوريا)، ولاستحالة استخدام الروس لبحارهم الشمالية والشرقية والشمالية الغربية بسبّب تجمّد مياهها لأشهر طويلة (إضافة إلى كون بحر قزوين مغلقاً تماماً). وهذا بالطبع يضعهم على تماس مباشر مع تركيا، شريكتهم في المدى البحري ومعبرهم المائي الإلزامي نحو العالم. والأخيرة تسعى بدورها إلى توسيع حضورها المائي الاستثنائي وإقامة مناطق نفوذ إن في البحر الأسود بين روسيا وأوكرانيا أو في بحر إيجه المتوسطّي في مواجهة اليونان، أو في الغرب الليبي للوصول إلى الشاطئ المتوسّطي الجنوبي وحقول الطاقة.
والأولوية المائية إياها تتّخذ في الحالة الإيرانية بعداً آخر، يرتبط بالتحكّم بالمضيقات إضافة إلى ولوج البحر المتوسّط. فمن مضيق هرمز شريان النفط الفاصل المحيط الهندي عن الخليج إلى باب المندب (مدخل البحر الأحمر الموصل إلى قناة السويس فالمتوسّط) إلى سوريا ولبنان وموانئهما المتوسّطية، تسعى طهران إلى فرض سطوتها وحضورها عبر قواتها المسلّحة أو قوات حلفائها (الحوثيّين والنظام السوري وحزب الله اللبناني).
هكذا، يقرّبُ الشأنُ المائي البحري، كما تداخل رقع النفوذ الجغرافي، وكما الماضي القريب الذي لم يتجاوز الحاضرُ المعقّدُ والمرتبكُ تبعاتِه خلال التحوّل من الإمبراطورية إلى الدولة – الأمّة، الروسَ والإيرانيين والأتراك بعضهم إلى بعض، رغم التمايزات والتطلّعات المتباينة.
فإذا أضفنا إلى كل ما ورد خطابات معادية للهيمنة الغربية في عواصم الدول الثلاث، وإذا أضفنا تشابكاً في أدوارها واحتلالاتها لسوريا منذ سنوات، وإذا أضفنا تعاونها الاقتصادي في مواجهة العقوبات الأمريكية والأوروبية القديمة على إيران والجديدة على روسيا، وإذا دقّقنا في خصائص الوساطات التركية بين كييف وموسكو، وإذا رصدنا مشاريع التعاون الروسي والإيراني والتركي مع الصين والهند، وقفنا على عمق الحاجة المتبادلة للتنسيق بين ورثة الإمبراطوريات «المقهورة». والحاجة هذه تبدو كافية حتى الآن للجم التنابذ بين تركيا من جهة وروسيا وإيران من جهة ثانية في الصراع الأذري الأرمني، وتبدو كافيةً أيضاً لتذليل الصعوبات بينها في الساحة السورية حيث تتشارك في مسار آستانة رغم تناقض مواقفها ومواقعها، وتبدو كافية كذلك للحدّ من تداعيات الصدام بين روسيا (عبر مرتزقة «فاغنر») وتركيا (عبر الطائرات المسيّرة والخبراء الميدانيين) في ليبيا. وهي تبدو أخيراً كافية لإدامة طلب روسيا إلى تركيا الوساطة في الحرب الأوكرانية، رغم بيع أنقرة كييف طائرات «بيرقدار» الشهيرة التي يصطاد الأوكرانيون بواسطتها دبابات بوتين الزاحفة على أنقاض مدنهم.
ولن تتبدّل الأمور على الأرجح في المستقبل القريب ولَو تعدّلت علاقة الدول الثلاث أو إحداها بالغرب، لأن تنويع الخيارات والاستفادة من الموقع والدور والتناقضات وابتزاز الأطراف المتخاصمة صارت من سمات السياسات الدولية اليوم. وما من علامات تشير إلى ضرورةٍ لتغيير ذلك.
القدس العربي