الاتفاق النووي يحتضر حول قضيتين رئيسيتين، أولاهما “الضمانات الاقتصادية القوية” التي تطالب بها طهران. والعراق هو أحد أوجه هذه الضمانات حتى وإن لم يتم طرح الموضوع فعليا على الطاولة. والثانية تحقيقات الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول النشاطات النووية السرية لإيران.
في العام 2008 توصلت إيران والولايات المتحدة إلى ما سمي “اتفاقا أمنيا” لتحديد العلاقة الإستراتيجية بين العراق والولايات المتحدة. إيران كانت هي الطرف غير الظاهر في هذا الاتفاق الذي وقعته حكومة نوري المالكي الأولى، بينما كانت إيران هي الراعي. ويقضي هذا الاتفاق ببقاء القوات الأميركية لمدة محدودة مع المحافظة على المصالح الاقتصادية الأميركية في العراق، مقابل السماح لإيران، عن طريق ميليشياتها والأحزاب التابعة لها، بأن تكون هي القوة التي تحكم العراق.
التفاهمات، وليست النصوص، هي ما كان قد شكل الأساس لذلك الاتفاق. وهو ما سمح لإيران، بالرغم من أنها كانت لا تزال خاضعة للعقوبات الأميركية، بأن تحصل على امتيازات اقتصادية أدت إلى “ضياع” أو “اختفاء” أكثر من 400 مليار دولار من ميزانية العراق في غضون أقل من ثماني سنوات، حتى نهاية حكومة المالكي في العام 2014.
واستمرت هذه الامتيازات بعد توقيع الاتفاق النووي في ذلك العام. وبينما كان من المتوقع أن يؤدي رفع العقوبات عن إيران إلى تخفيف الضغط عما “يضيع” أو “يختفي” من ميزانية العراق، إلا أن ذلك الضغط ازداد في الواقع. فما كان تفاهمات قائمة على الصمت، أصبح عقودا وشركات إيرانية تعمل بحرية والتزامات تخضع لها أي حكومة في العراق.
وكان الضامن الرئيسي لها هو شراكة الأحزاب والميليشيات المولية لإيران في السلطة، وفقا لنظام المحاصصة الطائفية، الذي أعيد تشكيله في العام 2010. ولقد استند هذا النظام منذ ذلك الوقت إلى مفهوم جديد لـ”الكتلة الأكبر”. فعلى الرغم من أن التكتل الذي قاده أياد علاوي فاز بأغلبية 92 مقعدا، على أقرب منافسيه في تحالف “دولة القانون” الذي حصل على 89 مقعدا، إلا أن الجماعات الموالية لإيران انضمت إلى بعضها لكي تنشئ “كتلة أكبر” جديدة، وتم إبعاد علاوي عن السلطة.
إدارة بايدن منحت إيران الضوء الأخضر للمحافظة على نفوذها بالعراق. وهو ما يفسر التعاطي الباهت لواشنطن مع الأزمة
ويرى مراقبون أن هذا المسلسل يتكرر الآن. فهناك مفاوضات تتأرجح بين النجاح والفشل للعودة إلى الاتفاق النووي، وهناك صراع جديد في العراق حول مفهوم “الكتلة الأكبر”، بينما تمارس إيران ضغوطا عنيفة وتهديدات، من أجل المحافظة على تفاهمات العام 2008 مع الولايات المتحدة من جهة، ولضمان بقاء ميليشياتها وأحزابها في دائرة السلطة من جهة أخرى.
وسواء تم التوقيع على العودة إلى الاتفاق النووي، أم لم يتم، فإن تلك التفاهمات، اكتسبت زخما بحكم الأمر الواقع. فقد ظلت سارية المفعول على امتداد رئاسة باراك أوباما من العشرين من يناير 2009 إلى العشرين من يناير 2017، حيث كان جو بايدن نائبا للرئيس وهيلاري كلينتون وزيرة للخارجية، وهما اللذان تسلما إدارة الملف في العراق، وهما اللذان وفرا الضمانات لإيران بأن تحافظ على نفوذها ومصالحها في العراق.
تقول إيران الآن إنها لن توقع على الاتفاق النووي ما لم يتوفر لها أمران، الأول “ضمانات قوية” بأن لا تعود الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات على إيران، إذا ما تخلت عن برنامجها النووي. والثاني هو وقف تحقيقات الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول اكتشافها نشاطات نووية سرية في ثلاثة مواقع غير معلنة، على اعتبار أنها “تحقيقات مدفوعة بأغراض سياسية”.
أحد أوجه الضمانات القوية المطلوبة يتعلق بمصالح العديد من الشركات الإيرانية التابعة للحرس الثوري، وجانب منها يحظى بامتيازات مهمة في العراق. وهو ما حققت فيه المفاوضات “تقدما” بإعفاء تلك الشركات من قيود العقوبات المفروضة على الحرس الثوري.
إدارة الرئيس بايدن، امتثالا منها لتفاهمات العام 2008 وما تأسس عليها خلال فترتي رئاسة أوباما، منحت إيران الضوء الأخضر للمحافظة على نفوذها في العراق. وهذا هو ما يفسر سبب الصمت “المدوي” الذي تعاملت به واشنطن مع تفجر الأزمة بين “التيار الصدري” الذي يطالب بمكافحة الفساد والتبعية لإيران وبين جماعات “الإطار التنسيقي” الموالية لإيران، وذلك لأن إدارة بايدن اعتبرت الأزمة في العراق “شأنا داخليا إيرانيا”. لاسيما وأن تفاهمات العام 2008 كانت تقوم على قاعدة “إعط لقيصر ما لقيصر، واعط لإيران ما لإيران”.
وبرغم أن الولايات المتحدة تتدخل في نزاعات أهلية مماثلة، في السودان وليبيا، إلا أنها لا تتدخل في النزاع الأهلي في العراق، ولا حتى في النزاع الأهلي في لبنان، طالما أن لإيران مصالح هناك، وهو ما يعني أن يد التفاهمات أطول في الواقع من أن تقتصر على العراق. وباستثناء تحركات ومواقف خجولة، ومتحفظة، فإن إدارة بايدن لا تزال تحرص على تنفيذ جانبها من قاعدة “إعط لإيران ما لإيران”.
ويلاحظ المراقبون أن لا التحرك الشعبي المناهض لإيران في العراق بين العامين 2019 و2020 (انتفاضة تشرين)، ولا التحرك الشعبي الذي قاده “التيار الصدري”، دفع الولايات المتحدة، صاحبة أكبر سفارة في العالم ببغداد، إلى تبني موقف يساند هذين التحركين، إلا ببيانات تدعو إلى الهدوء وضبط النفس والديمقراطية، وهي إشارات كانت طهران تتلقاها على أنها “تطمينات” من جانب الولايات المتحدة، وليست خروجا عن القاعدة.
إيران والجماعات الموالية لها تعرف أن الغالبية العظمى من العراقيين يريدون التخلص من هيمنتها على العراق، إلا أن ذلك شكل بالنسبة لها دافعا للمزيد من التدخل لفرض المعادلة التي تحافظ على هذه الهيمنة. وبلغ التدخل حدودا غير مسبوقة، عندما ظل قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني يقوم بزيارات مكثفة إلى العراق، وذلك إلى أن تم فرض “الاستقالة” على المرجع الديني كاظم الحائري، الذي يتبعه مقتدى الصدر، بل وإجباره على تبني موقف عدائي ضده بلغ حد نكران جميل المرجعين الصدرين عليه (محمد محمد الصدر ومحمد جعفر الصدر) اللذين تعلم الحائري على يديهما، بل ونكران انتساب مقتدى إلى أبيه وعمه أيضا.
لم تطالب جماعات “الإطار التنسيقي” بشيء أكثر من المحافظة على حصتها في السلطة، أي المحافظة على حصة إيران، لأنها تفاهمات داخلية موازية للتفاهمات بين طهران وواشنطن.
وبحسب تقديرات المراقبين، فإن المسألة ليست مسألة انتخابات، أو من فاز أو لم يفز فيها. إنها مسألة حصص مسبقة، تضمن لإيران أن تكون هي صاحبة اليد الأعلى في العراق، سواء عبر “حصان طروادة” تملكه داخل “العملية السياسية” أو عبر منظومة من العقود والارتهانات الاقتصادية التي تربط الحكومة العراقية بالمصالح الإيرانية.
التعقيدات التي ترافق المفاوضات على العودة إلى الاتفاق النووي، تتزامن مع الأزمة الراهنة في العراق. ولكن إذا كان يتوفر لإيران سبب للدفاع عن مصالحها في العراق، في حال فشلت المفاوضات، فإنه يتوفر لها سببان في حال نجحت المفاوضات.
التيار الصدري، والحراك الشعبي المناهض لإيران، يبدو في ظل هذا الواقع، محاصرا بمعادلة واحدة تفرضها التفاهمات بين إيران والولايات المتحدة
السبب في حال الفشل، هو أن إيران ستعود لتعتمد على ما “يضيع” و”يختفي” من ميزانية العراق، لمواجهة أعباء استمرار العقوبات.
والولايات المتحدة تعرف مسبقا أن عقوباتها كانت مصابة بثقب أسود في العراق، وكانت هي التي سمحت به، وسمحت بتوسيعه كلما اشتدت حاجة إيران إلى المال، لغايتين: الأولى هي احترام التفاهمات التي منحت السلطة في العراق لإيران، وهو ما كان طوق نجاة، للمحافظة على “ما لقيصر” في العراق. والثانية هي أن أموال النفط الإيرانية التي تُحتجز في المصارف الغربية، بقيت تغذي أماني “العودة إلى إيران”، بعقود لصالح الشركات الغربية.
أما السببان في حالة النجاح، فأولهما أن إيران لن تستفيد كثيرا من أموالها المحتجزة، بموجب التعاقدات المنتظرة مع الشركات الغربية، وهي تشمل أعمال تحديث المشاريع النفطية وشراء طائرات مدنية، وبناء موانئ، ومنشآت لتطوير شبكة الكهرباء، مما يدفع إيران إلى التركيز على “شركاتها” التابعة للحرس الثوري وعلى التعاقدات الحكومية مع العراق لتكون هي مصدر التمويل الرئيسي.
وثانيهما هو أن الاتفاق النووي الذي لم يشمل أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار، أطلق يدها في المنطقة. وهذا أمر حيوي بالنسبة لسلطة الولي الفقيه التي لن تتخلى عن “تصدير الثورة”.
وهناك ديون طائلة تنتظر إيران من العراق أن يقوم بتسديدها، 5 مليارات منها لقاء وارداته من الغاز والكهرباء، بعد رفع العقوبات مباشرة ونقدا.
التيار الصدري، والحراك الشعبي المناهض لإيران، يبدو في ظل هذا الواقع، محاصرا بمعادلة واحدة تفرضها التفاهمات بين إيران والولايات المتحدة. والسبيل الوحيد المتاح هو “إعط لإيران ما لإيران”، في السلطة والاقتصاد، تم أم لم يتم توقيع الاتفاق النووي.
صحيفة العرب