دول الشرق الأوسط عليها التفكير جدياً في احتمال من اثنين لا ثالث لهما؛ أحدهما يتمثل في التهدئة، أو على أقل تقدير ثبات الوضع الراهن بين الصين وتايوان، من دون وصوله إلى مواجهات عسكرية، ويعني ذلك محدودية التأثيرات الاقتصادية للأزمة. أما الاحتمال الثاني فهو أن تتفجر الأزمة وتتحول إلى صراع عسكري مباشر يؤدي إلى فرض عقوبات اقتصادية على الصين ستعاني منه الدول العربية وبالتالي سيكون عليها أن تتحضّر لذلك بالبحث عن البدائل منذ الآن.
لندن – حذّر كبار المسؤولين حول العالم، لاسيما الأميركيين منهم، من تداعيات الزيارة الأخيرة لرئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان مطلع شهر أغسطس الماضي، وذهب بعضهم إلى القول صراحة إن رد الفعل الصيني لن يكون سوى في صميم الملف الاقتصادي، وأنه سيكون رداً طويل الأمد.
وفي ظل ارتدادات الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي أوقف فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العالم على ساق واحدة، في ملفي الطاقة والغذاء، لا يبدو أن الاقتصاد الدولي يحتمل المزيد من الهزّات، لكن من يقنع الصين بذلك؟
ووفقاً لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، فإن العالم اليوم يكاد يدخل أزمة جديدة، من المحتمل أن تشكّل صدمة لاقتصاد دولي يعاني من ضعف النمو. وفي مقال نشره المركز أشارت الأكاديمية سمر الباجوري أستاذة الاقتصاد في كلية الدرسات الأفريقية العليا بجامعة القاهرة، إلى أن هشاشة الاقتصاد العالمي ناجمة عما لحق به من أزمات مُتلاحقة، فإذا حصل وبلغ رد الفعل الصيني حدود التصعيد العسكري، فإن أول المتأثرين به سيكون اقتصاد الشرق الأوسط.
لم تكن الصين بحاجة إلى أكثر من زيارة بيلوسي لتعيد طرح أحقيتها في السيادة على تايوان، وبقدر ما أظهرت غضباً دبلوماسياً وإعلامياً، كانت تحرّك قطعاتها العسكرية باستعراض قوة مقصود، عبر اختراق المجالين الجوي والبحري للجزيرة، في إشارة واضحة ونهائية إلى حكومة تايبيه من اتخاد أي خطوات من جانب واحد تشي باستقلالية قرارها في المستقبل.
أعلنت الصين حرباً اقتصادية هادئة، انطلاقاً من فرضها لحزمة عقوبات على تايبيه، تشمل وقف تصدير الرمال الطبيعية وهي المواد الخام التي تستند إليها صناعة الرقائق الذكية عماد الاقتصاد التايواني.
تايوان تعدّ المركز العالمي الأول لإنتاج هذا النوع من الرقائق التي تدخل في صناعة السيارات والأجهزة الإلكترونية، محتكرة توريدها إلى دول العالم عبر شركة ”تي أس أم سي“، فتعالت على الفور أصوات في الغرب تطالب بالبحث عن بديل لتأمين تلك الرقائق التي يبدو أن توازنها قد اختل.
كما سارع الرئيس الأميركي جو بايدن إلى توقيع قانون حمل الاسم “ذي تشيبس أند ساينس آكت” لمنح مساعدات بقيمة 52 مليار دولار لإحياء قطاع إنتاج أشباه الموصلات وتعزيز صناعة الرقائق الإلكترونية. إذ تبلغ قيمة الاستثمارات الجديدة في هذا المجال 50 مليار دولار، إثر إعلان شركة مايكرون الأميركية عن خطة لاستثمار 40 مليار دولار في التوسع المحلي بحلول العام 2030.
الولايات المتحدة حالياً لا تنتج سوى قرابة 10 في المئة فقط من الإمدادات العالمية من الرقائق الإلكترونية، وفقا للبيت الأبيض، وتستورد حوالي 75 في المئة منها من شرق آسيا.
وشملت حرب الصين ضد تايوان وقف تصدير الأسماك والفواكه. غير أن بكين كانت حذرة في زيادة جرعة العقوبات، بحيث لا يشكل ما تقوم به الصين سبباً لانهيار سريع لاقتصاد تايوان.
لكن كيف سينعكس التصعيد الصيني ضد تايوان على اقتصاد الشرق الأوسط، تقول الباجوري، إنه من الممكن أن يكون التأثير المُحتمل والأبرز هو تعطل تدفقات التجارة والاستثمار من الصين إلى دول العالم كافة، ومنها الشرق الأوسط، وسيكون انعكاس ذلك في تضرر النشاط الصناعي الصيني، في المقدمة، وسيبدو ذلك سلبياً جداً على واردات الرقائق الإلكترونية من تايوان والتي تعتمد عليها بكين بصورة كبيرة في مجالات التصنيع لديها. فحتى الصين تستورد حوالي 40 في المئة من احتياجاتها من الرقائق الإلكترونية من تايوان.
ومن المؤكد أن الصين ستواجه عقوبات اقتصادية قاسية، من طرف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول آسيا الحليفة لهما، في حال فكّرت في غزو تايوان، كما حصل مع روسيا في فبراير الماضي، الأمر الذي سيزعزع مكانة الصين الاقتصادية والتي يعتمد عليها الشرق الأوسط بصورة كبيرة، سواء في حقول الطاقة أو الصناعات أو التبادل التجاري.
الصين تستحوذ وحدها على حوالي 17 في المئة من إجمالي واردات الشرق الأوسط من العالم، وحوالي 40 في المئة من واردات المنطقة من السلع الإلكترونية، وقرابة 28 في المئة من الواردات من السلع كالآلات والمعدات. ولا أحد يعرف كيف سيكون عليه الحال في الشرق الأوسط فيما لو توقفت تلك الإمدادات.
أما صادرات الشرق الأوسط إلى الصين فلا تتجاوز 13 في المئة من إجمالي صادرات المنطقة إلى العالم، حيث تستحوذ الصين على 17 في المئة من الصادرات النفطية لمُنتجي الشرق الأوسط، وهي تمثل في الوقت ذاته قرابة 30 في المئة من واردات الصين من السلع النفطية من دول العالم كافة.
ووفقاً لذلك فإن التداعيات المحتملة لأي تغيير في الوضع الحالي على اقتصاد الشرق الأوسط ستكون هائلة، وتأثيرها سيكون مُضاعفاً بالنسبة إلى الدول المُنتجة للنفط، دول الخليج بالدرجة الأولى، لكن الخبر الجيد أنه وفي ظل الحرب الروسية – الأوكرانية ستكون هناك سوق بديلة لتصريف الصادرات النفطية إلى دول أخرى غير الصين، بعد إغلاق الخطوط الروسية.
العقوبات الدولية المحتملة ضد الصين ستزعزع مكانتها الاقتصادية والتي يعتمد عليها الشرق الأوسط بصورة كبيرة
انهيار الحزام الصيني
على صعيد آخر، ستتراجع الاستثمارات الصينية في الشرق الأوسط، وإذا ما فرضت عقوبات على الصين فإن الاستثمارات الحالية ذاتها ستتوقف، بعد إخراجها من نظام المدفوعات العالمي.
الصين حاضرة في الشرق الأوسط في المجال الاستثماري بشكل ملموس ومتصاعد في الآونة الأخيرة، خاصةً في مشروعات البنية التحتية والاستثمارات اللوجستية. ومن بين الدول العربية المعتمدة على الصين في هذا المجال، العراق الذي يعد ثالث أكبر مُورد للنفط إليها، بينما بلغ حجم الاستثمارات الصينية في قطاع الطاقة فيه حوالي 10.5 مليار دولار في عام 2021. كما تشارك الصين في مشاريع البنية التحتية بالعديد من دول المنطقة كالمغرب وغيره، وذلك في إطار “مبادرة الحزام والطريق”.
من التداعيات المحتملة أيضاً، تضرّر حركة التجارة العالمية التي يمثل الشرق الأوسط سوقاً كبيرة لها، إضافة إلى تعطل خطوط الشحن البحري في بحر الصين الجنوبي، والذي تمر عبره حوالي 60 في المئة من التجارة البحرية العالمية، ويضم في أعماقه الكابلات الحيوية لخدمات الاتصالات الدولية. وبالتالي فإن أي تهديد بإغلاق ممراته الملاحية، سيكون له تأثير كبير على دول العالم بما فيها المنطقة العربية.
وسيكون على دول الشرق الأوسط التفكير جدياً في احتمال من اثنين لا ثالث لهما؛ بحسب الباجوري، أحدهما يتمثل في التهدئة، أو على أقل تقدير ثبات الوضع الراهن بين الصين وتايوان، من دون وصوله إلى مواجهات عسكرية، ويعني ذلك محدودية التأثيرات الاقتصادية للأزمة، وهو ما يبدو أن الصين تتجه إليه تجنباً لتكرار الحرب الروسية – الأوكرانية.
أما الاحتمال الثاني فهو أن تتفجر الأزمة وتتحول إلى صراع عسكري مباشر يؤدي إلى فرض عقوبات اقتصادية على الصين ستعاني منه الدول العربية وبالتالي سيكون عليها أن تتحضّر لذلك بالبحث عن البدائل منذ الآن.
العرب