عادت بولندا لما سبق وأثارته حول مطالبها لدى الاتحاد السوفياتي في شأن ما قالت إنها تستحقه من تعويضات لقاء ما ألحقه بها من أضرار إبان سنوات الحرب العالمية الثانية.
ورغم أن الجانبين توصلا إلى تسوية هذه القضية منتصف خمسينيات القرن الماضي، بعد أن وافق الاتحاد السوفياتي على حصول بولندا على بعض ما كان يحصل عليه من ألمانيا الديمقراطية من تعويضات مالية على مدى ما يقرب من 10 سنوات، فقد عادت وارسو إلى إثارة هذا الموضوع.
إثارة الموضع مجدداً تواكبت مع ما أعلن عنه رئيس حزب “القانون والعدالة” الحاكم في بولندا ياروسلاف كاتشينسكي حول ما تدين به ألمانيا لبلاده من تعويضات قال إن الحكومة البولندية قدرتها بما يزيد على 1.3 تريليون دولار، وهو ما سارع الجانب الألماني إلى رفضه “جملة وتفصيلاً” استناداً إلى ما توصلت إليه الأطراف المعنية من اتفاقات.
تهديد مماثل
وتقدمت بولندا سابقاً بمثل هذه المطالب التي واجهتها موسكو بتهديد مماثل قالت فيه إن بولندا هي التي تبدو مدعوة لسداد ما عليها من “ديون” في مقابل ما تكبدته موسكو من خسائر بشرية ومادية خلال الفترة من 1919 وحتى 1921، وما لحق بها أيضاً من خسائر إبان سنوات الحرب العالمية الثانية في معرض عملية تحريرها من الاحتلال النازي، وما بعدها لدى مشاركتها في إعادة إعمار بولندا.
وكان نائب البرلمان البولندي، يان موسينسكي، قد كشف في حديث إذاعي عن أن بولندا وروسيا السوفياتية وقعتا عام 1921 “اتفاق ريغا” حول إنهاء الحرب بين البلدين، وإلزام روسيا بدفع ما قيمته 30 مليون روبل ذهبي لبولندا، وهو ما لم تلتزم بتنفيذه.
من جانبها، قالت المصادر الروسية إن الجيش الأحمر السوفياتي قدم الملايين من الضحايا خلال معاركه التي خاضها من أجل تحرير بولندا من الاحتلال الفاشي، إلى جانب ما قدمه من مساعدات تقنية ومادية من أجل إعادة بناء الاقتصاد البولندي.
الصمت المطبق
لكن الأهم الذي ربما يكون وراء “الصمت المطبق” الذي التزمت به بولندا سنوات طوال، قد يكون في ما تعالى من أصوات تحذر من مغبة الانسياق وراء مثل هذه المطالب، نظراً إلى احتمالات ما قد يسفر عنها من “مطالب” بإعادة ما جرى استقطاعه من الأراضي الألمانية التي ضُمت إلى شرق بولندا بموجب نتائج الحرب العالمية الثانية.
وفي هذا الصدد نقلت صحيفة “كومسومولسكايا برافدا” الأوسع انتشاراً في روسيا عن المدير العلمي للجمعية التاريخية العسكرية الروسية، ميخائيل مياخكوف، ما قاله حول أن هناك من يتناسى ما “قاتل” ستالين من أجله في “مؤتمر يالتا”، وصراعه مع رئيس الحكومة البريطانية ونستون تشرشل لمنح بولندا مساحات هائلة من الأراضي الألمانية بل والسوفياتية، خصماً من أراضي أوكرانيا وبيلاروس.
وقال مياخكوف، “بولندا حصلت بعد الحرب وبفضل ستالين على أراضي بياليستوك وجزء من بريزاني، وهي أرض قرب نهر سان، بما في ذلك مدينة برزيميسل”.
ومضى المؤرخ الروسي ليقول إن “بولندا حصلت على أكبر زيادة على حساب الأراضي الشرقية الألمانية، بوميرانيا وسيليسيا وشرق براندنبورغ وجنوب وشرق بروسيا”، فيما أكد أن مقاطعة كلينينغراد الروسية الحالية ليست سوى ثلث أراضي منطقة كينيجسبيرج الألمانية السابقة.
وأضاف أن ستالين منح بولندا الثلثين الآخرين بما يمكن أن تكون بولندا حصلت معه نتيجة لذلك على ربع إجمالي الأراضي الألمانية.
وعزا المؤرخ الروسي ما حققته بولندا من تقدم وتطور إلى ما ضمته من أراض جديدة كانت تنعم بكثير من التطور، وبما استطاعت معه الحكومات البولندية تحقيق التحول السريع من بلد زراعي إلى صناعي، وهو ما أسهم في تعافي اقتصاد بولندا بعد الحرب.
كثير من المهانة والهوان
ولم يقتصر المدير العلمي للجمعية التاريخية العسكرية الروسية، ميخائيل مياخكوف، على استعراض ما قدمه الاتحاد السوفياتي السابق إلى بولندا المعاصرة منذ انتهاء سنوات الحرب العالمية الثانية، قبل أن يعود بالذاكرة إلى قرون طويلة مضت شهدت فيها روسيا كثيراً من المهانة والهوان تحت الاحتلال البولندي منذ القرن الـ 17، وذلك ما تلقفه النائب الأول لرئيس لجنة العلاقات الدولية لدى مجلس الاتحاد، فلاديمير جباروف، الذي عاد إلى تصفح ملفات الماضي بما تتضمنه من وثائق، وقال إنه من الممكن الاستناد إليها لدى توجيه الاتهام إلى بولندا بمسؤوليتها عن تدمير القرى، وما أعقب ذلك من غزو موسكو عام 1612.
وإذ وصف جباروف المطالب البولندية، سواء إلى روسيا أو ألمانيا، بالهراء والطريق المسدود، قال إنه وبموجب ما تستند إليه بولندا من منطق فإن روسيا تبدو مدعوة إلى مطالبتها بما تستحقه من تعويضات على أحداث وقعت عام 1612، وهو مطلب مماثل لما يمكن أن تقدمه روسيا أيضاً إلى فرنسا جراء ما قام به نابليون من غزو موسكو عام 1812.
واستطرد ليقول إن “البولنديين أرادوا أن يجعلوا روسيا في واقع الأمر مستعمرة لهم، ويحولونها إلى العقيدة الكاثوليكية، وكان الملك البولندي زيغيموند في سبيله إلى تنصيب أميره فلاديسلاف على العرش الروسي، والآن يتظاهر البولنديون بأنهم نسوا الأمر”.
ضحايا الجيش الأحمر
وانتقل المؤرخ الروسي إلى التاريخ المعاصر ليعيد إلى الأذهان موت الآلاف من جنود الجيش الأحمر في المعسكرات البولندية عام 1921، فضلاً عن استيلاء بولندا على غرب أوكرانيا وبيلاروس.
وقال إن البولنديين احتلوا مينسك وكييف بعد الحرب العالمية الأولى، قبل أن يسفر الهجوم المضاد للجيش الأحمر عن مطاردتهم حتى أبواب وارسو، وإن اعترف بكثير من الهزائم التي لقيتها القوات السوفياتية على أيدي البولنديين، وما تم رسمه من حدود جديدة بموجب “معاهدة ريغا” عام 1921 بما قررته من تنازلات عن غرب أوكرانيا وبيلاروس الغربية التي آلت تبعيتها إلى بولندا.
ورداً على الاتهامات التي لا تزال تتردد حول ما يقوله البولنديون من أن الاتحاد السوفياتي عقد مع هتلر اتفاقاً دفعت بولندا ثمنه من استقلالها وسيادتها وحرمة أراضيها، قال مياخكوف إن الاتحاد السوفياتي “لم يهاجم” بولندا عام 1939 كما تعتقد وارسو اليوم، وإن كان هناك من يقول إن القوات السوفياتية “دخلت بولندا بعد أن غزتها ألمانيا” وبعد رفض حكومتي بريطانيا وفرنسا الدخول في الحرب.
تواطؤ مع هتلر
وهنا حمل المؤرخ الروسي على بولندا معيداً إلى الأذهان ما سبق وارتكبته من تواطؤ و”غزل” مع القوات الهتلرية بالمشاركة معها في غزو تشيكوسلوفاكيا، فضلاً عما قامت به كل من فرنسا وبريطانيا من تحركات استهدفت تحويل أنظار القوات الهتلرية صوب الشرق، وما أعقب ذلك من توقيع اتفاق بين ألمانيا وبولندا في شأن حمايتها في حال الحرب، وهو ما برر به المؤرخ الروسي ما وقعه الاتحاد السوفياتي من اتفاق حول اقتسام مناطق النفوذ مع ألمانيا، وهو الاتفاق الذي نص على استعادة الاتحاد السوفياتي للأراضي التي كانت تابعة لروسيا قبل عام 1921 وكانت تابعة لأوكرانيا وبيلاروس، وقال إن الجيش الأحمر دخل هذه الأراضي فقط في الـ 17 من سبتمبر (أيلول) 1939، وكانت القوات الهتلرية قد سبقته إليها لتلحق بالقوات البولندية أفدح الهزائم قبل أن تلوذ حكومتها بالفرار إلى خارج البلاد.
وفي هذا الصدد أشار المؤرخ الروسي إلى أن الأوامر كانت صدرت إلى القوات البولندية بعدم الدخول في معارك مع الجيش الأحمر، بما يعني انتفاء ما يمكن الاستناد إليه لتسمية ما حدث بأنه كان “حرباً”، وللإفصاح عن تساؤله حول السبب الذي يمكن الاستناد إليه للمطالبة بالتعويضات.
ومن المعروف أن الاتحاد السوفياتي نفسه كان وقع بعد ذلك ضحية للغزو الهتلري اعتباراً من الـ 22 من يونيو (حزيران) عام 1941 رغم توقيع “معاهدة عدم اعتداء” مع النظام الهتلري، وهي المعاهدة التي وقعها في العاصمة السوفياتية موسكو في الـ 23 من أغسطس (آب) 1939 وزير الخارجية الألماني ريبنتروب، ونظيره السوفياتي فياتشيسلاف مولوتوف، وعرفت لاحقاً باسميهما.
ونصت المعاهدة على اقتسام بلدان شمال وشرق أوروبا وإعلانها مناطق نفوذ لكل من البلدين، ولم يقتصر الأمر على مجرد انتهاك المعاهدة، حيث عادت القوات الهتلرية بعد أن فرغت من احتلال بلدان غرب أوروبا إلى الجبهة الشرقية لتكبد القوات السوفياتية كثيراً من الهزائم والخسائر قبل أن تبلغ مشارف العاصمة السوفياتية موسكو في أكتوبر (تشرين الأول) 1941.
انتفاضة سوفياتية
لكن الاتحاد السوفياتي سرعان ما انتفض ليقتص لهزائمه ويلحق بالقوات النازية أفدح الهزائم التي كانت المقدمة لتحرير كل الأراضي السوفياتية وبعدها بلدان شرق أوروبا، قبل أن يستولي على العاصمة برلين ويغرس رايته الحمراء على قبة الـ “رايخستاغ” مستبقاً قوات الائتلاف الأميركية – البريطانية التي دخلت برلين متأخرة عن القوات السوفياتية ببضعة أيام بحسب الأدبيات السوفياتية – الروسية.
أما عن غرب أوكرانيا وبيلاروس التي كانت القوات الهتلرية استولت عليها بداية أيام الحرب بعد مقاومة ضارية، فسرعان ما عادت لتنضم إلى القوات السوفياتية ولتسهم بدور بالغ الأهمية في تحقيق النصر على ألمانيا النازية.
وتقول الأدبيات الروسية استناداً إلى وثائق تلك الفترة، إن القوات السوفياتية لعبت الدور المحوري الرئيس في إلحاق الهزيمة بالقوات الهتلرية وتحرير الأراضي السوفياتية، قبل أن تتحول إلى تحرير بلدان شرق أوروبا، بما فيها البلدان التي كانت انضوت تحت قيادة القوات الهتلرية ومنها بلغاريا ورومانيا.
كما كان الاتحاد السوفياتي المأوى والملاذ لمئات الألوف من مواطني هذه البلدان ممن فروا إليه، وأقاموا بين جنباته حتى تاريخ ما قبل الانهيار في ديسمبر (كانون الأول) 1991.
تجدد المطالب
وعودة أخرى لقضية التعويضات التي تعود بولندا إلى إثارتها من جديد مع ألمانيا المجاورة، نقول إن بولندا لم تكتف بما حصلت عليه، ليس فقط من أموال التعويضات، بل وأيضاً من أراضي غرب ألمانيا كما أشرنا بعاليه، وها هي تعلن مطالبها من ألمانيا بما تقول إنه حق لها تعويضاً عن سنوات الاحتلال الألماني لبولندا، وما لحق بالبلاد بسبب هذا الاحتلال من كوارث ومآس.
أما عن الجانب الآخر فهناك من يقول إن “ألمانيا الجريحة” كانت اضطرت إلى الخضوع والإذعان بما أقره الجانب المنتصر الذي اقتطع كثيراً من أراضي غرب ألمانيا، مما تسبب في فرار نحو 8 ملايين ألماني من هذه الأراضي، في وقت تمسّك ما يقرب من 2.5 مليون بمقار إقامتهم في الأراضي الألمانية التي تحولت إلى التبعية البولندية، مثلهم في ذلك مثل كثيرين من سكان بيلاروس وبولندا والمجر ورومانيا ومولدافيا ممن يخضعون اليوم لتبعية أوكرانيا التي آلت إليها أراضي تلك البلدان بموجب نتائج الحرب العالمية الثانية.
وثمة من يقول إن هناك من يقف على مقربة مثل إسرائيل التي تلقفت إثارة بولندا لقضية التعويضات، لتكون مبرراً لإعادة ما سبق وطالبت ألمانيا بسداده من تعويضات كان من المقرر أن تدفعها ألمانيا الشرقية بموجب “اتفاق التعويضات الأصلي”.
وقالت المصادر الإسرائيلية إن ما تطالب به بولندا من تعويضات يمكن أن يدفع السلطات الإسرائيلية إلى مطالبة ألمانيا بما لم يتم سداده في حينه، وهو ما تقدره هذه السلطات الآن بما يقرب من 18 مليار دولار.
استغلال الظروف الإقليمية
واللافت في هذا الصدد أن كل ذلك يجيء في فترة مواكبة لاندلاع الصراع الروسي – الأوكراني، وبما قد يسمح بانخراط أطراف جديدة في الصراع، ليس فقط حول التعويضات المالية بل وأيضاً من أجل استعادة ما فقدته من أراض، ومنها ما تم استقطاعه بموجب نتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وكانت بولندا أول من فتح ملفات الماضي في محاولة لاستغلال الظروف الإقليمية والدولية الراهنة من أجل القصاص واستعادة ما تقول إنها فقدته بموجب نتائج الحرب العالمية الثانية من دون اعتبار لما اقتطعته من أراضي غرب ألمانيا، ولم يقتصر الأمر في هذه الحال على مجرد التصريحات التي سرعان ما تحوّلت إلى تحركات عملية تستهدف استعادة مساحات هائلة من أراضي غرب أوكرانيا، ومنها لفوف إحدى كبرى المدن الأوكرانية التي كانت لجأت إليها البعثات الدبلوماسية لكثير من البلدان الغربية يوم سارعت بمغادرة العاصمة كييف قبيل بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة في الـ 24 من فبراير (شباط) الماضي.
وتحت ستار وشعارات تقديم العون والمساعدة للنظام الأوكراني، نجحت الحكومة البولندية في توقيع عدد من الاتفاقات التي تمنح المواطنين البولنديين حرية الإقامة والعمل والتنقل داخل الأراضي الأوكرانية، إلى جانب ما أقرته الحكومة الأوكرانية لهم من وضعية خاصة وامتيازات، في مقابل ما تقدمه لمواطنيها ممن لجأوا إلى بولندا هرباً من جحيم المعارك والحرب في أوكرانيا.
اقتسام “الكعكة الأوكرانية”
ولم تكن المجر بعيدة من محاولات اقتسام “الكعكة الأوكرانية” وإعادة النظر فيما أسفرت عنه الحرب العالمية الثانية من نتائج، وذلك ما كشف عنه رئيس الحكومة الأوكرانية فيكتور أوربان، وأعلنه بشكل غير مباشر حول معاناة مواطنيه في المهجر الأوكراني والروماني ممن راحوا ضحية نتائج الحرب العالمية الأولى وانهيار إمبراطورية النمسا – المجر، وما أقرته “معاهدة تريانون” التي اضطرت المجر إلى توقيعها مع الحلفاء الغربيين بعد الحرب العالمية الأولى في بهو قصر تريانون الكبير في فرساي بفرنسا يوم الرابع من يونيو عام 1920.
وثمة من يقول إن ما تطرحه بولندا اليوم من مطالب، ومنها قضية التعويضات المالية، لا بد من أن يفتح الباب أمام مطالب مماثلة يمكن أن تطرحها كثير من البلدان الأوروبية ضد بعضها بعضاً، وإذا كان هناك من تصور في حينه أن “ميثاق هلسنكي” الذي وقعت عليه بلدان منظمة الأمن والتعاون الأوروبي عام 1975 يظل أهم الوثائق التي تحظر إعادة النظر في حدود ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكن ما جرى من أحداث وأهمها انهيار الاتحاد السوفياتي نهاية عام 1991، وما أعقبه من أحداث أطاحت بحدود وأمن وسيادة يوغوسلافيا ووحدة أراضيها إلى جانب تقسيم بلدان أخرى مثل تشيكوسلوفاكيا، يمكن أن يكون المقدمة التي جاءت الأحداث في أوكرانيا لتضع ملامح ومسارات ما يمكن أن يليها من تطورات ثمة من يقول إنها “تنذر بما لا تحمد عقباه”، بحسب القول العربي المأثور.
وما دام الشيء بالشيء يذكر فنعيد إلى الأذهان ما حرصت موسكو على تأكيده في شأن أن حقوقاً لها لدى بولندا، وهو ما أشار إليه رئيس لجنة العلاقات الدولية في مجلس الاتحاد جباروف الذي قال أيضاً إنها مدعوة إلى تذكر ما حظيت به من أفضال الزعيم السوفياتي الأسبق ستالين، وما قام به من جهود من أجل ضم كثير من الأراضي الألمانية إلى بولندا.
وخلص المسؤول البرلماني إلى القول إنه “من العار على بولندا أن تشتكي، وعليها أولاً وقبل كل شيء دفع ثمن ما آل إليها من أراض”.
اندبندت عربي