تتصاعد حدة أزمة الطاقة في أوروبا مع تراجع إمدادات الغاز الروسي، في وقت تخشى مؤسسات في القارة العجوز من تحول الأزمة إلى مظاهرات واحتجاجات، وإن كانت قد بدأت في بعض المدن.
وكانت إيطاليا أول من صرخ في لعبة عض الأصابع بين روسيا وأوروبا، وتلتها جمهورية التشيك ثم ألمانيا والقائمة مفتوحة.
وعبر تقليصها لإمداداتها من الغاز إلى القارة العجوز، تدفع روسيا نحو تفكيك التضامن بين دول الاتحاد الأوروبي الداعم لأوكرانيا، وتقسيمها بين مؤيد ورافض لإسقاط العقوبات الأوروبية ضدها.
وعندما يفقد مواطنو الدول الأوروبية القدرة على تحمل الفواتير المرتفعة للكهرباء والتدفئة وأسعار السلع والخدمات المرتبطة بالطاقة، سيضطرهم للخروج في مظاهرات من شأنها إسقاط الحكومات الحالية “الوسطية”، وصعود أخرى أقل عدائية مع موسكو.
خريف الغضب الأوروبي
رغم أن عدة دول أوروبية أعلنت أنها تمكنت من ملء احتياطاتها من الغاز بنسب تجاوزت 80 بالمئة، ما يكفيها لتغطية احتياجاتها في فصل الشتاء لأكثر من شهرين، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لطمأنة مواطنيها، بسبب ارتفاع أسعار الكهرباء وغاز التدفئة.
أسعار الغاز الطبيعي في السوق العالمية تتضاعف ووصلت إلى 3500 دولار لكل ألف متر مكعب، في أغسطس/ آب الماضي، بينما تحذر روسيا من أن أسعار الغاز يمكن أن تقفز إلى 5 آلاف دولار لكل ألف متر مكعب.
المسألة لم تعد فقط احتياطات الغاز لمواجهة الشتاء، ولكن أيضا بأي سعر سيتم بيعه للأفراد، خاصة وأن الكهرباء المنتجة بالغاز الطبيعي ترتفع أسعارها باضطراد ما يؤثر على أسعار مختلف المواد الغذائية والخدمات وبالتالي التضخم.
إيطاليا تبدو أول من سيدفع ثمن “حرب الغاز”، رغم أن حكومة ماريو دراغي، المستقيلة نجحت في تقليص اعتمادها على الغاز الروسي إلى قرابة النصف في ظرف قياسي (من 40 إلى 25 بالمئة).
إلا أنها لم تصمد أمام الأحزاب التي توصف بأنها قريبة من موسكو، خاصة من اليمين المتطرف.
وما حدث في نابولي، إنذار مبكر لما قد يحدث في الأسابيع والأشهر المقبلة، ليس في إيطاليا فحسب، بل في مختلف الدول الأوروبية، عندما أحرق محتجون غاضبون، في 2 سبتمبر/أيلول الجاري، فواتير الكهرباء والغاز في الشارع، مرددين شعار “لن ندفع الثمن”.
في اليوم التالي، خرجت أكبر مظاهرة في أوروبا منددة بارتفاع فواتير الكهرباء والغاز في جمهورية التشيك، شارك فيها نحو 70 ألف متظاهر، اتهموا فيها حكومة بلادهم بالتركيز على الشأن الأوكراني بدل الاهتمام بحل مشاكل مواطنيها.
في ألمانيا، أكبر اقتصاد أوروبي، اندلعت احتجاجات شارك فيها بضعة آلاف من الأشخاص في مدينة لايبزيغ (190 كلم جنوب برلين)، والتي يبلغ عدد سكانها نصف مليون نسمة، منددين بسياسات الحكومة في مجال الكهرباء والغاز.
وليس من المستبعد أن تلتحق بهذه الدول فرنسا وبريطانيا وإسبانيا ودول أوروبية أخرى، فارتفاع أسعار الغاز يؤثر بشكل مباشر على أسعار الكهرباء، ويضاعف من حالة التضخم التي تشهدها هذه البلدان.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كان صريحا مع مواطنيه، عندما دعاهم لتوديع حالة الرفاهية، وإعلانه “انتهاء زمن الوفرة”، لكن هذا لن يكون كافيا لإقناع أصحاب “السترات الصفراء” بعدم العودة إلى الشارع مجددا للاحتجاج على التراجع الحاد للقدرة الشرائية.
حتى وإن كانت فرنسا تعتمد على الطاقة النووية بـ70 بالمئة، فإن الجفاف الذي ضرب أنهارها التي تستخدم مياهها في تبريد المفاعلات النووية، وأعمال الصيانة التي تجريها على هذه المفاعلات، ووقف روسيا صادرات الغاز لها عبر أنبوب نورد ستريم، عمّق من معانتها.
روسيا تعمق جراح أوروبا
في الوقت الذي كانت تفاخر عدة دول أوروبية بسرعة ملئها خزانات احتياطاتها من الغاز، على غرار ألمانيا (84.5 بالمئة) وفرنسا (90 بالمئة)، فاجأتها روسيا بوقف إمدادات الغاز عبر خط “نورد ستريم 1”.
وتزامن وقف هذا الخط، مع إعلان وزراء مالية مجموعة الدول السبع (ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وكندا واليابان)، في 2 سبتمبر، أنهم يخططون لتطبيق “حد أقصى لسعر النفط الخام لروسيا ومنتجاتها البترولية”.
هذا الموقف يكشف أن الدول الأوروبية الرئيسية وبضغط أمريكي متجهة نحو مزيد من التصعيد مع روسيا في ملف “النفط”، بالمقابل ردت موسكو بتصعيد آخر لكن في ملف “الغاز”.
فإذا كانت أوروبا لا تجد صعوبة كبيرة في استبدال النفط الروسي بالنفط الخليجي لسهولة نقله وتخزينه، إلا أنها لا تملك نفس الرفاهية بالنسبة للغاز، الذي لا تملك البنية التحتية الكافية لنقله وتخزينه في آجال قريبة.
ورغم ذلك، دعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، الدول الأوروبية لتحديد سقف لأسعار الغاز الروسي، لمعاقبة الرئيس فلاديمير بوتين، وحرمانه من تمويل حربه في أوكرانيا.
هذا الخيار سيدفع روسيا لقطع نهائي لصادراتها النفطية والغازية نحو أوروبا، ما سيعمق الأزمة بالنسبة للدول الأوروبية ذات الاقتصادات الأقل تقدما أو التي لا تملك بنية تحتية كافية لنقل وتخزين الغاز.
وبينما شدد بوتين على أن محاصرة بلاده “مستحيلة”، وانتقد “حمى العقوبات” الغربية، حمّل المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، القادة الأوروبيين مسؤولية وقف خط “نورد ستريم 1″، وقال في تهديد صريح: “أوروبا ارتكبت أخطاء كثيرة يجب أن تدفع ثمنها”.
هل تصمد أوروبا؟
تحاول روسيا حرمان الدول الأوروبية من الوصول إلى الهدف الذي وضعته بملء خزاناتها من الغاز بنسبة 80 بالمئة، رغم تجاوز بعض الدول لهذا الهدف، لكنه لا يضمن لها الصمود لفترة طويلة إذا امتدت الأزمة.
حيث تدفع موسكو نحو أسعار غاز مرتفعة بشكل يؤدي إلى تضخيم فواتير الكهرباء وغاز التدفئة بشكل لا يحتمل، أو حتى إلى انقطاعات للكهرباء في الدول التي لم تجهز نفسها بما يكفي، ما سيفجر مظاهرات واحتجاجات من شأنها الإطاحة بالحكومات المناوئة لموسكو، وصعود حكومات “صديقة” من اليمين المتطرف أو من أقصى اليسار.
فالدول الأوروبية ليست على قلب رجل واحد، وإمكانياتها متفاوتة، ونسبة اعتمادها على الغاز الروسي متباين، ما يجعل درجة تحملها لانقطاع الغاز مختلف.
والمجر، إحدى نماذج الدول تسير عكس التيار الأوروبي، حيث اشترت كميات إضافية من الغاز الروسي بدل السعي لتقليصه.
وعلق موقع “يورونيوز” التابع للاتحاد الأوروبي، في إحدى مقالاته “المجر تتحدى أوروبا، وتقرر شراء 700 مليون متر مكعب إضافية”.
رغم ذلك، فإن الدول الأوروبية الكبرى وعلى رأسها ألمانيا مصممة على مواصلة نهج العقوبات مهما كان الثمن، رغم إدراكها أن شعوبها ستصرخ أولا وتخرج إلى الشارع للمطالبة بخفض فواتير الكهرباء والغاز.
وتوجه رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، إلى الجزائر وقطر، مؤخرا، لبحث فرص زيادة إمدادات الغاز من البلدين العربيين على المدى القصير، لتعويض أي نقص من الغاز الروسي.
واستبقت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، هذا السيناريو، واستبعدت رفع العقوبات على روسيا حتى ولو نشبت احتجاجات في أوروبا لاحقا.
فأوروبا تدرك أن الرضوخ للمطالب الروسية سيشجع موسكو على اتباع نفس النهج، لذلك تفضل مواصلة سياسة العقوبات الاقتصادية على المدى الطويل لجعلها تجثو على ركبتيها مثلما حدث للاتحاد السوفييتي في 1991.
(الأناضول)