«داعش» لم تعد «لعبة سياسية»

«داعش» لم تعد «لعبة سياسية»

-39057
منذ انطلاق قيادة حلف الأطلسي المعقودة اللواء للزعامة الأمريكية المطلقة، إلى محاربة النفوذ السوفييتي في أفغانستان، خطر على بال مراكز الأبحاث التي تعمل تحت إمرة هذه القيادة، أن بالإمكان إطلاق «لعبة سياسية» تفيد في مقارعة النفوذ السوفييتي، إلى جانب الأسلحة التقليدية المعروفة، وهي التعاون مع عدد من استخبارات الدول الأخرى، لتحريك تيارات التطرف الديني، باعتبارها عدواً لدوداً للإلحاد الشيوعي السوفييتي.

لكن بعد النجاح الذي حققته هذه التجربة، بدأت تظهر في مراكز الأبحاث التابعة للزعامة الأمريكية، ولقيادة حلف الأطلسي، أفكار للإفادة من هذه اللعبة السياسية نفسها في مجالات أخرى، منها تغيير خريطة المنطقة العربية، بشكل تصبح معه هذه المنطقة أشد تفكيكاً من الحالة التي تركتها عليها اتفاقية سايكس – بيكو، في أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية، وذلك للقضاء على نهضة عربية حديثة، يمكن أن تشكل في حال ازدهارها على تشديد أواصر الوحدة والتكامل بين أقاليم المنطقة العربية، فيما تشكل تحدياً حقيقياً للكيان الصهيوني الذي ابتدعته السياسة الغربية، ليفصل ما بين المشرق العربي والمغرب العربي، ويشكل بالتالي تهديداً حقيقياً لهذا الكيان، ولحالة النفوذ المطلق له في هذه المنطقة من العالم.
لم تبق «اللعبة السياسية» على حالها في المواجهة الثقافية، بل ارتئي عندئذ تطويرها إلى استغلال كل مظاهر التطرف الديني لإطلاق أقصى ما يمكن من مكونات التوحش في بؤرة التخلف العربي.
ولعل هذه اللعبة، بحالتها الجديدة، قد وصلت إلى ذروتها عندما دخل حيز التنفيذ قرار الحلف الأطلسي، بتدمير العراق بعد غزوه أولاً، ثم بقرار تفكيك وحدة الدولة السورية، مما يوجد وطناً عربياً جديداً، أو شرق أوسط جديداً، شديد الملائمة لأغراض إحاطة «إسرائيل» بالأمن المطلق الذي لا يأتيه التهديد من أي جهة، وذلك عن طريق القضاء على كل احتمالات ظهور بوادر نهضة حقيقية تزيد من تلاحم الأقاليم العربية بعضها مع بعض، وتسرع من فرص دخولها في صميم العصور الحديثة لكل متطلباتها ونتائجها.
ظهرت القاعدة أولاً، ثم تلاها ظهور ما يسمى «داعش» في العراق والشام، ثم جبهة النصرة كقاعدة محلية للقاعدة الدولية، وسوى هذين التنظيمين، كثير من التنظيمات التكفيرية المتطرفة المتوحشة، على أرض الأزمة السورية بشكل خاص، في اتجاه واضح لتفكيك وحدة هذا البلد السياسية ونسيجه الاجتماعي بالغ الثراء والتنوع، وعمقه التاريخي كدليل حديث على أعمق ما في التاريخ البشري من حضارات قديمة، ما زالت ناطقة من خلال آثارها التي اكتسبت حصانة دولية نظرية، لشدة انتمائها إلى أعماق التاريخ البشري بأسره، وليس العربي فقط.
لكن كوامن التوحش والتخلف في عناصر هذه اللعبة السياسية، التي تجري منذ سنوات إدارتها من خلال الحدود التركية مع سوريا، بدأت تفلت من يد المتحكمين بها، وتنتشر في كل أنحاء العالم، من خلال عمليات وحشية تسقط طائرة روسية بمئات من ركابها، وترتكب مجزرة وراء مجزرة في الضاحية الجنوبية لعاصمة لبنان بيروت، وترتكب أخيراً مجزرة في أرقى شوارع ومعالم باريس الرياضية والثقافية والسياحية.
لم تعد «داعش» وأخواتها لعبة سياسية تتحكم بها قيادة الحلف الأطلسي، بل تحولت إلى خطر داهم يهدد كل مظاهر الحضارة الإنسانية في كل أرجاء العالم، وبالذات في عواصم الدول التي ابتكرت هذه ا للعبة، واستمرأت التحكم بها في مخططات سياسية شريرة.
لقد دقت ساعة الحقيقة، في شوارع باريس، وعلى متن الطائرة الروسية المنكوبة، وآن أوان التوقف عن اللعبة، بالتوقف الفوري عن كل مظاهر دعمها (وراء ألفاظ الاستنكار الشكلية)، ولم تعد عبارات الاستنكار تكفي لدرء الأخطار، مهما بلغت هذه العبارات من الشدة ومن التزويق.