الغرب يروج للمكاسب الميدانية الأوكرانية الأخيرة على أنها انتصار سيجلب النصر لكييف، لكن التفاؤل الغربي سيحتاج إلى الوقت لاختباره ومعرفة قدرة أوكرانيا على الصمود وهل أن روسيا فعلا قد خسرت الحرب أم أن لديها بدائل عسكرية واقتصادية جديدة.. وأن الحسم لن يكون قبل الشتاء.
نيويورك – شهدت حرب روسيا ضد أوكرانيا، والتي بدأها الرئيس فلاديمير بوتين في عام 2014، واتسع نطاقها في فبراير الماضي، تحولا دراماتيكيا في أعقاب قيام القوات الأوكرانية، في أقل من أسبوع، بتحرير حوالي 3400 ميل مربع (نحو 8800 كيلومتر مربع) من الأراضي في منطقة خاركيف، شمال شرق البلاد.
ويقلل محللون ودبلوماسيون من التفاؤل بأن أوكرانيا قلبت مسار الحرب، معتبرين أن الأمر يرتبط كذلك بطريقة الرد الروسي، وأن الأمر لن يحسم قبل الشتاء وتداعياته على روسيا وأوكرانيا وخاصة أوروبا.
ويقول الدبلوماسي ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي للأبحاث، إن من الواضح أن المخططين الإستراتيجيين الروس الذين كانوا يركزون على الهجوم الأوكراني المضاد الجاري في جنوب البلاد، لم يكونوا مستعدين للهجمات الأوكرانية في شمال شرق البلاد، ولم تكن لدى الجنود الروس الذين يفتقرون للتدريب الجيد والقيادة المميزة، القدرة على مواجهة نظرائهم الأوكرانيين المتحمّسين والذين يتمتّعون بكفاءة عالية.
الروس الذين ركزوا على الهجوم الأوكراني في الجنوب، لم يستعدوا للهجمات الأوكرانية في شمال شرق البلاد
ويوضح هاس في مقال نشره مجلس العلاقات الخارجية على موقعه الإلكتروني أن ما حدث كان تحولا، ولكن لا يعتبر حتى الآن “نقطة تحول” في الحرب، فمن السابق لأوانه كثيرا التعويل على مكاسب أوكرانيا في منطقة واحدة، ناهيك عن استنتاج أن ما حدث في خاركيف هو بشير خير لكل أوكرانيا.
ولا تزال روسيا تحتل الغالبية الكبرى من الأراضي التي استولت عليها في عام 2014 وما بعده، والكثير من الروس يعتبرون شبه جزيرة القرم، بوجه خاص، ملكا لهم. ويشير هذا إلى أن استعادتها ستكون أمرا صعبا للغاية، خاصة أنه ستكون هناك حاجة لمزيد من القوة العسكرية لخوض عمليات هجومية أكثر من القيام بمهام الدفاع.
ويعتقد هاس أنه، رغم ذلك، فإن ما حقّقته أوكرانيا مهمّ بكل المقاييس، وقد أدّى إلى تحول كبير في التفكير داخل الحكومة الأوكرانية. فقبل أشهر مضت، كان الهدف بالنسبة إلى الكثير من الأوكرانيين هو بقاء أوكرانيا مستقلة قابلة للحياة، حتى لو كانت الدولة لا تسيطر على كل أراضيها. ولكن أهداف الحكومة من وراء الحرب، وهو تعريف ما يشكّل الانتصار، أصبحت أكثر طموحا، بسبب وحشية الروس ومكاسب القوات الأوكرانية الأخيرة على الأرض.
وقال هاس إنه، ردا على سؤال منه، طالب وزير الدفاع أوليكسي ريزنيكوف بعودة جميع أراضي أوكرانيا، بما في ذلك ما استولت عليه روسيا عام 2014، وأضاف إلى ذلك مطلبا بالحصول على تعويضات اقتصادية لتمويل تكاليف إعادة الإعمار التي تقدر بنحو 350 مليار يورو، كما أنه أكد ضرورة المحاسبة القانونية للمسؤولين في روسيا عن هذا العمل العدواني وجرائم الحرب المتصلة به.
ويرى هاس أن التطورات العسكرية الأخيرة ستؤثر أيضا على سياسات الدول الأوروبية الأخرى، التي أدّى ارتفاع أسعار الطاقة فيها إلى إثارة المعارضة لتزويد أوكرانيا بالأسلحة والمال. ولكن ثبت الآن خطأ ما يتردد بأن التفوق العسكري الروسي أظهر عدم جدوى تقديم الدعم لأوكرانيا. ففي ظل وقف روسيا لإمدادات الغاز، سوف تجعل النجاحات العسكرية الأوكرانية الأخيرة من السهل على الحكومات الأوروبية تبرير التضحيات الاقتصادية والشخصية خلال ما يتوقع أن يكون شتاء صعبا.
وفي الوقت الحالي، هناك احتمال بأن تشهد عدة شهور أخرى قتالا مكثفا في شمال شرق وجنوب أوكرانيا. ومع ذلك، فإنه في نهاية المطاف، سوف تتضاءل جهود القتال نتيجة للطقس القارس وعدم قدرة الطرفين على مواصلة العمليات العسكرية الكبيرة.
ويرى هاس أن هذا الانخفاض في حجم القتال سوف يوفر وقتا للتفكير، حيث سيحتاج قادة أوكرانيا إلى دراسة أهدافهم الموسعة في الحرب وما إذا كانت ذات أولوية متساوية. وسيكون هناك أمر محل دراسة رئيسي، وهو التكاليف المتزايدة للحرب: فقدان ثلث الإنتاج تقريبا، والتضخم الكبير للغاية، وتدهور قيمة العملة، وزيادة حجم الديون، والاعتماد المتزايد الذي لم يسبق له مثيل على المساعدات الخارجية. وسوف تشهد إعادة البناء الاقتصادي تباطؤا نتيجة الغموض فيما يتعلق بما إذا كانت الحرب سوف تستمر.
وبالإضافة إلى ذلك، هناك التكاليف البشرية. فقد منيت أوكرانيا بعدد كبير من الخسائر في الأرواح بين قواتها المسلحة، والمدنيين، بينما نزح حوالي 13 مليون أوكراني داخليا أو صاروا يعيشون كلاجئين في أنحاء أوروبا. وسوف تضغط أوكرانيا من أجل تحقيق انتصار عسكري كامل، ولكن يرتبط بهذا الهدف مسألة ما إذا كان هناك احتمال للحاجة لبحث بعض التنازلات بالنسبة إلى الأهداف، ربما على أساس مؤقت.
ريتشارد هاس: لم تكن لدى الجنود الروس القدرة على مواجهة نظرائهم الأوكرانيين الذين يتمتّعون بكفاءة عالية
ويقول هاس إن روسيا تواجه أيضا اختيارات، حيث يحتفظ الرئيس بوتين بكثير من الخيارات التي سوف تجعل من الصعب على أوكرانيا استعادة المزيد من الأراضي التي تحتلها روسيا. وحتى الآن، يرفض بوتين الاعتراف بأن روسيا في حالة حرب تتطلب عملية تجنيد وتعبئة واسعة النطاق، إما للتقليل من قدرات عدوه أو لشعوره بالقلق بالنسبة إلى ردود الفعل السياسية المحلية. ومن الممكن أن يتغير هذا في أيّ لحظة، وكذلك الحال بالنسبة إلى تجنب الكرملين مهاجمة دولة ترغب في الانضمام للناتو أو استخدام الأسلحة الكيمياوية، أو حتى النووية. والأمر الذي يهم بوتين هو رد الفعل العسكري والاقتصادي من جانب الغرب، وما إذا كان ذلك سيجعل وضعه أفضل أو أسوأ في بلاده.
وهدّد بوتين بتعزيز الهجمات على البنية التحتية المدنية لأوكرانيا، متعهدا بمواصلة غزوه بعد أن منيت قواته ببعض أسوأ انتكاساتها في العملية العسكرية المستمرة منذ سبعة أشهر.
وذكرت وكالة بلومبرغ للأنباء الجمعة، أن بوتين كان رافضا للهجمات المضادة، في أول تصريحات علنية له منذ أن قالت أوكرانيا إنها استعادت ما يصل إلى عُشر الأراضي التي سيطرت عليها روسيا.
وأضاف “سنرى كيف ستمضي الأمور”، مشيرا إلى أن القوات الروسية تواصل تقدمها في مناطق أخرى.
ويتعيّن على الغرب، من ناحيته، مواصلة تزويد أوكرانيا بالدعم العسكري والاقتصادي الذي تحتاجه، من حيث النوع والكم. وهناك أسباب إستراتيجية قوية للقيام بذلك، بما في ذلك ردع أيّ عدوان في المستقبل من جانب روسيا، أو الصين، أو أيّ دولة أخرى. وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي العمل على أن يدرك بوتين والآخرون في روسيا الثمن الذي سوف يدفعونه نظير توسيع نطاق الحرب جغرافيا أو استخدام أسلحة الدمار الشامل. وهناك حاجة لأن تكون الخطط لتنفيذ ردود الفعل هذه جاهزة إذا فشل الردع.
وأضاف هاس “نحن، هكذا، نواجه شتاء ليس فقط شتاء استياء (كما وصفه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في اجتماع له بالعاصمة كييف الأسبوع الماضي) ولكن أيضا شتاء قرار. والأمر الذي يبدو مؤكدا هو أن الحرب سوف تستمر طوال المستقبل القريب. فمن غير المتصور أن يوافق بوتين على مطالب أوكرانيا، تماما كما هو من المستحيل أن تقبل أوكرانيا بما هو أقل كثيرا من مطالبها. وما بقي لنراه هو كيف ستؤثر القرارات التي يتم اتخاذها بعيدا عن أرض المعركة هذا الشتاء على مسار الحرب عندما يحين الربيع”
العرب