“الجمهورية الإسلامية ستنتهي” .. واثقةً تحدثت الناشطة الإيرانية فاطمة سِبِهْري في مقابلة مع قناة صوت أميركا، مستندةً إلى تصاعد الغضب والنفور، إثر مقتل مهسا أميني بعد اعتقالها بسبب عدم انسجام حجاب شعرها مع معايير النظام.
الناشطة، التي ترتدي غطاء رأس متماشياً حرفياً مع معايير السلطة، أجرت المقابلة وهي في مدينة مشهد الدينية. اعتقلتها السلطات بعد يوم، وليست المرّة الوحيدة التي تُعتقل فيها، قبل ثلاثة أعوام أيضاً ألقي القبض عليها إثْر توقيعِها وثيقةً تطالب بعزل المرشد خامنئي وإلغاء الجمهورية الإسلامية. بالتزامن مع هذا، وبجانب اندلاع احتجاجاتٍ شرسة، نزعت ناشطاتٌ وفناناتٌ وأديباتٌ داخلَ البلاد ربطات شعورهن في مقاطع مصوّرة على وسائل التواصل الاجتماعي، تضامناً مع حرية المرأة في ملبسها ورفضاً لقوانين السلطة. تراجُعُ منسوبِ الخوف لدى معارضة الداخل النخبوية والشعبية تدرَّجَ منذ الحركة الخضراء الناجمة عن اتهام أنصار المرشّح الرئاسي المقام عليه جبرياً، مير حسين موسوي، السلطاتِ بتزوير الانتخابات لمصلحة محمود أحمدي نجاد عام 2009. بمعنى أن موجات الاحتجاجات بدأت بعد اليأس من إمكانية التغيير عبر صناديق الاقتراع المسيطر عليها من مراكز القوى.
هذه المرّة، يتأجج الموقفُ مجدّداً، لكن بطريقة مختلفة عن المرّات السابقة، لكون السبب المباشر غيرَ اقتصادي وليس سياسياً. ببساطة، حياةُ الأفراد باتت مهدّدة، والأسر صارت تخشى على بناتها من اعتداءات “دوريات الإرشاد – شرطة الأخلاق” المتكرّرة. في هذا الجهاز، تُعشّش روحُ النظام القمعية تجاه الحرّيات العامة، وخشيتُه من وجود النساء طرفاً حاسماً في رفض السياسات منذ بدايات تأسيس الحكم الديني. هذا الحدث هو المنطلق المباشر لتجدّد تحرّكِ مجتمع يقاسي من قمْع حرّياتِه المدنيةِ وسياساتٍ أفقرتْ شرائحَ واسعة من شعبٍ تحيط به احتياطيات نفط وغاز كبيرة.
واقعة الفتاة المغدورة ليست حادثة عرضية. تكرّرت مراراً في ظل توجه أصيل لدى السلطة
إذا كان مقتل ندا آغا سلطان خلال الاحتجاجات الخضراء عام 2009 لحظةً حاسمة كشّرتْ فيها الأجهزةُ الأمنية عن أنيابها في مواجهة الحراك، فإن مقتلَ مهسا أميني يكشف عن هلع النظام من فتاةٍ يافعةٍ لأسرة فقيرة لم تكن في مظاهرة ولا في حراك، بل سافرت من مدينتها الكردية الصغيرة لتكتشف طهران الكبيرة من دون أنْ تدري أنها ستلاقي فيها حتفها. يصنف الإصلاحيون داخل منظومة الحكم سياساتِ القمعَ بأنها خروج عن القانون وانفلاتُ جهازٍ أمني مشكوك في قانونيته. ويرى معارضو وجود الحكم الثيوقراطي الوضعَ منسجماً مع جوهر النظام نفسه، وامتداداً لسياساته المتأصلة منذ بدء فرض الحجاب في مارس/ آب من عام 1979. الرأي الثاني أقرب إلى الواقع وأصحّ تفسيراً لما عليه السياساتُ المستمرة أكثرَ من أربعة عقود. يرتكز النظام على هذه الأذرع شبه الرسمية لتطبيق أيديولوجيته. كانت قوات البيسيج (التعبئة) ومنظمات أمنية مثل “جند الله” و”ثار الله”، منذ البدايات، هي المسؤولة عن تنفيذ عقيدةِ قمعِ الحريات. إنها تعمل تحت سقف السلطة وقانونها، وانحسر نشاطُها في فترات سابقة عندما قرّرت السلطات وضع حد لها.
تراجعت نسبياً هذه الكياناتُ في الفترة الرئاسية الثانية لهاشمي رفسنجاني، بعد أن وحّد الأجهزة الأمنية. الرئيس الخامس خاتمي لاحقاً فرَضَ مزيداً من القيود عليها، إلا أنها قيودٌ شذّتْ عن توجهات المرشد خامنئي، لهذا أعيد إنعاشُها في رئاسة أحمدي نجاد، حيث نشطت مع بداية عهده “دورياتُ الإرشاد”. الآن يقف على رأس السلطة التنفيذية أحدُ أكثر الشخصيات أصوليةً وتشدّداً، إبراهيم رئيسي. هنا نتحدّث عن “قاضٍ ديني” متهمٍ بالتورط في قرارات الإعدام الجماعية عام 1988 حين راح ضحيتها مئات أو آلاف السجناء السياسيين، ما يعني أن رئيسَ الجمهورية مشاركٌ مباشرة في قتل جماعي عادةً ما كان الرؤساء السابقون بعيدين نسبياً عنه. الخطر يتجاوز حدودَ كونه رئيساً للجمهورية، هو أحدُ مرشحَين اثنين لخلافة خامنئي. الثاني هو مجتبى الابن الثاني للمرشد نفسه.
خلاصة القول أن واقعة الفتاة المغدورة ليست حادثة عرضية. تكرّرت مراراً في ظل توجه أصيل لدى السلطة. أخيراً، سعت حكومةُ رئيسي لإجراءاتٍ جديدةٍ، مثل تدعيم عمل كاميرات المراقبة في الأماكن العامة، وفرض غرامةٍ على سوّاق سيارات الأجرة، حال وجود امرأة بلباس لا يخضع لمعايير الحكم. فيأتي الحراكُ الأخير تكليلاً لمجابهة استهتار الحكم. يشقّ طريقَه لمواجهةِ سياسةٍ خارجيةٍ سببت وضعاً اقتصادياً هو الأسوأ، وسياسة داخلية تقوم على الشللية وقمعِ الحريات وتسلّطِ الحرس الثوري على الاقتصاد والثقافة والمجتمع، فضلاً عن السياسة والأمن. هذا التسلط قوبل رمزياً خلال الاحتجاجات الجارية بحرق صور الجنرال قاسم سليماني، تعبيراً عن نبْذِ توجهات الحرس ورفضِ أن تعتمد الدولة، داخلياً وخارجياً، عليه.
يعتمد النظام على الصراع الداخلي لتمرير بقائه، بل يغذّي الانقسام كي يجعل الأمرَ معركةً بين مجتمعَين، لا بين نظام سياسي مستبد وشعب سئم القمع
قد لا يكون هذا كافياً لسقوط النظام، بقدر ما أنه تعبيرٌ عن فقدانه ما يكفي من أسباب بقائه. البلاد على مدى 13 عاماً تغلي وتشهد احتجاجات تنفجر كل عام تقريباً. بمعنى أن أجيالاً جديدة لم ترغب في بقاء الجمهورية الإسلامية، فكسرتْ حاجز الخوف. على الطرف الآخر، هناك ذهنية لم تغادر بعدُ سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، معتقدةً أن أسباب صمودِ النظام زمن الحرب العراقية الإيرانية وقبلها وبعدها لا تزال نفسَها، متناسية الأزماتِ المتكرّرة والمتغيرات الثقافية الجارفة. يزداد الأمر جموداً مع صعود رئيسٍ ينتمي إلى تلك الذهنية، ظانّاً أن مهمته التمهيد لـ”الإمام الغائب” عبر تطبيق الشريعة بالقوة المميتة. بذا خسرت طهران ما كانت تمتلك أخيراً من شخصياتٍ لديها بعض مرونة الحداثة وحصافة إدراك المتغيرات، مثل الرئيس السابق حسن روحاني، بإصراره على حماية بعض الحريات، والسعي لمنع الأجهزة الأمنية من قمعها، ووزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، حين سعى لتقديم صورةٍ أفضل مما اعتاده العالم مع أحمدي نجاد.
ورغم أن الطبقة الوسطى لم تعد مدافعةً عن الثيوقراطية الدينية وسلطتِها، يمتلك النظام أنصاراً من الأرياف ومحيط المدن الكبرى، وهم كثر، ويعتمد عليهم في القمع وتمشية السياسات الأمنية الشديدة. تستند مراكزُ القرار إلى هؤلاء لتدجين المدن وحصارِها ومنعِ انفلات عقالِها. أيضاً توجد تحالفاتٌ اقتصادية تلعب عليها منظومة الحكم بشكل حاسم. الطبقات العليا من المجتمع رغم أنها غيرُ منسجمة مع روح النظام، لكنها لا تمارس ضغطاً كي يسقط. سكان شمال طهران، وهم عادة يمتلكون هامش حريات أكثر من قلب المدينة، ليسوا معنيين بالتغيير بقدر ما تعنيهم شبكة علاقات اقتصادية ليست بعيدةً عن مراكز القوى السياسية والدينية والأمنية. عدا عن هذا، تفيد معلوماتٌ بأن السلطة بدأت بحملة لرفد تلك المناطق بسكان جدد موالين لها يمتلكون بحبوحةً ماليةً تتيح لهم مشاركة الطبقة المخملية حياتها.
البازار، الذي كان لاعباً حاسماً في إسقاط الشاه، ما زال على الحياد تقريباً في المعركة بين الناشطين والنخب وشرائح واسعة في المدن الكبرى من جهة، والسلطة من جهة أخرى. اعتداءٌ مثل الذي حدث على أميني يمكن أن يدفع البازار أيضاً إلى المشاركة. لأننا نتحدّث عن أجهزة أمنية شبه رسمية، لا تكتفي فقط بخنق الحريات، إنما تفرض إيقاعها على التجارة. في هذا الاتجاه، أنتج أكثر من فيلم سينمائي على مدى السنوات القليلة الماضية، يعالج مسألة انتحال مجاميع اسم “دوريات التوجيه” لممارسة الابتزاز وفرض الإتاوات. جدير بالذكر أن تلك الأفلام منعتها الرقابة.
يكرّس الصراع بين الحجاب وعدم الحجاب استدعاء النزعة الذكورية في البيئات المحافظة، إلا أن قضية مهسا أميني تنتهي إلى نتائج عكسية
يعتمد النظام في هذه النقطة على الصراع الداخلي لتمرير بقائه، بل يغذّي الانقسام كي يجعل الأمرَ معركةً بين مجتمعَين، لا بين نظام سياسي مستبد وشعب سئم القمع. هنا لا نتحدّث عن مجتمع خامل يُمارَس عليه القمع دون حراك، بل عن نشاط واضح يجعل إيران موضوعاً لمتابعات جادّة أكثر من بلدان مجاورة تشهد قمعاً بلا رحمة، لكن الحراك الرافض بطيء أو معدوم. هنا يبرز أشهرُ منظر سياسي ناقد للنظام ما زال داخل إيران، صادق قطب زاده، مؤشِّراً على احتمالات شِقاق حاد. على خلفية مشاركته في حملات إدانة مقتل مهسا، عادّاً ذلك نتيجة غياب القانون، ومنذراً من مصير دكتاتوريات أخرى، يحذّر زيبا كلام من أن ممارسات النظام أوجدت صراعاً ثقافياً يقسِّم البلاد. إنذارُه يأتي ردّاً على سياسات النظام، وفي إطار انتقاده من يتوهمون أن إيران من حيث الوحدة الاجتماعية أقرب إلى النموذج الأوروبي منها إلى نماذج العراق وسورية وأفغانستان. هو يرى أن للانقسامات في بلاده أبعاداً تجعلها تشبه جوارها.
في هذا الصدد، يؤدّي الانقسام دوراً في تحجيم أو توسيع دائرة رفض النظام القائم الذي يلعب مباشرة على وتر التحذير من النيات الانفصالية للكرد والعرب، لإثارة الرعب على وحدة البلاد لدى القوميتين المهيمنتين، الفارسية والآذرية، بينما يكرّس الصراع بين الحجاب وعدم الحجاب استدعاء النزعة الذكورية في البيئات المحافظة، إلا أن قضية مهسا أميني تنتهي إلى نتائج عكسية. قتْل فتاة بسبب خطأ، كما تدّعي أجهزةُ السلطة، أو بفعل ممنهج كما تتهم المعارضةُ السلطاتِ، وكما هو منسجم مع سوابق الأذرع الأمنية، لن يخدم المواجهةَ الثقافية التي يريدها النظام، بل يأخذ المسار إلى مواجهة بين الناس والحكم.
العربي الجديد