الحرب في أوكرانيا تربك نفوذ روسيا في القوقاز وآسيا الوسطى

الحرب في أوكرانيا تربك نفوذ روسيا في القوقاز وآسيا الوسطى

نتائج التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا ستكون له نتائج نوعية في حالتي الانتصار والانتكاسة، لكن هناك نتائج تتشكل الآن تحت تأثير هذه الحرب من ذلك اهتزاز صورة روسيا في محيطها وارتخاء قبضتها في “العالم الروسي”، ما سمح بعودة النزاعات وشجع قوى أخرى على اختراق هذا العالم.

باريس – كثرت التوترات في الأيام الأخيرة في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى حيث يبدو أن نفوذ روسيا يضعف جراء الصعوبات العسكرية التي تواجهها في أوكرانيا.

يأتي هذا في وقت يقول فيه مراقبون إن انشغال روسيا بالحرب قد فتح المجال أمام الحروب الثنائية والنزاعات وخاصة على التنافس من دول وقوى أخرى مثل الصين وتركيا على ميراث الاتحاد السوفياتي السابق الذي يعتبر كفناء خلفي لروسيا وساحة خاصة بها، وهو ما بات يعرف بـ”العالم الروسي الكبير”، مشيرين إلى أن صورة روسيا التي لا تهزم بدأت بالتراجع.

ويفيد مصدر دبلوماسي أوروبي طلب عدم الكشف عن هويته “كل محيط روسيا يتفكك ويبدو واضحا أنها عاجزة عن السيطرة”.

ويؤكد بن دوبوو الباحث في مركز الدراسات الأميركي “سيبا” أن “النفوذ الروسي يضعف في المناطق الحدودية”.

فرهانات موسكو كبيرة جدا في هذه المناطق المحاذية لجنوب روسيا من جانبي بحر قزوين، بين الصين شرقا وتركيا غربا وهما لاعبان أساسيان أيضا في المنطقة.

كل محيط روسيا يتفكك ويبدو أنها عاجزة عن السيطرة بسبب انشغالها بالحرب، وقلق حلفائها من تراجع دورها

وخلال القمة الأخيرة لمنظمة شنغهاي للتعاون في سمرقند في أوزبكستان وجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه تحت ضغوط شركائه، ولاسيما الصين والهند، الذين أعربوا عن قلقهم أو شكوكهم بشأن الحرب في أوكرانيا. وسمحت دول عدة في آسيا الوسطى من جهة أخرى بتظاهرات دعم لأوكرانيا.

ويقول مراد أصلان الباحث في مركز الدراسات التركي “سيتا” ومقره في أنقرة إنه في هذه المناطق قبل الحرب “كانت الفكرة راسخة جدا بأن روسيا لا يمكن أن تُهزم”.

ويضيف “في حال خسرت روسيا سيتبدل كل شيء (..) ينبغي توقع حصول نزاعات ضيقة النطاق” متوقعا تراجعا تدريجيا للنفوذ الروسي.

لكنه نبه أنه “في حال كسبت عسكريا فستستفيد من رافعة معنوية هائلة لتظهر بأنها قادرة على فرض وجهة نظرها”.

وتأجج نزاعان لم تتم تسويتهما بعد في الأسابيع الأخيرة في جمهوريات سوفياتية سابقة، الأول بين أرمينيا وأذربيجان والثاني بين قرغيزستان وطاجيكستان ما أسفر عن سقوط المئات من القتلى.

فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي “هذه الحدود التي لم يكن ينبغي أن تكون دولية بل تقسيمات إدارية تندرج في إطار كيان واحد، أصبحت حدودا دولية” على ما تفيد إيزابيلا دامياني خبيرة الجغرافيا المتخصصة بآسيا الوسطى في جامعة فيرساي الفرنسية.

وعلى سبيل المثال، تشير الخبيرة إلى أن “نصف الحدود تقريبا بين طاجيكستان وقرغيزستان لم ترسم بعد وهذا أساس المشكلة”.

ويرى مايكل ليفيستون الخبير بشؤون روسيا وآسيا الوسطى في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (Ifri) أن التوتر بين هذين البلدين “لا علاقة له بالضرورة بوضع روسيا في أوكرانيا. لكن ثمة رابط أوضح مع الوضع بين أذربيجان وأرمينيا”.

ويؤكد المصدر الدبلوماسي نفسه “هنا لدينا نزاع جدي جدا”.

وينبه ليفيستون “مهما يكن من أمر تجب مراقبة ما قد يحصل” في أرمينيا مع التظاهرات الاحتجاجية على منظمة اتفاقية الأمن المشترك وهي الهيئة الأمنية الإقليمية التي أنشأتها موسكو.

وترتفع أصوات في أرمينيا بعضها في صفوف السلطات للتنديد بعدم فاعلية هذه المنظمة التي تعتبر أداة في يد موسكو وتشارك فيها أيضا دول آسيا الوسطى ومن بينها قرغيزستان وطاجيكستان.

وعلى غرار اتفاقية حلف شمال الأطلسي ينص بند في المنظمة على حصول دولة عضو تتعرض لعدوان على دعم من الأعضاء الآخرين. ورغم نداءات المساعدة لم تحصل أرمينيا على هذا الدعم.

وشدد الباحث المولدافي دنيس سينوسا في تغريدة على أن “الرد الضعيف للمنظمة على هجمات أذربيجان يغذي الاحتجاجات في صفوف الأرمن الذين يريدون مغادرة هذه الهيئة”.

فعدم تحرك روسيا النسبي ومنظمة اتفاقية الأمن المشترك قد يترك الساحة مفتوحة لنفوذ تركيا الداعمة لباكو.

كازاخستان تدرك جيدا أنها مقيدة بحواجز لا يمكنها تجاوزها، مثل اعتماد اقتصادها على روسيا للحصول على المواد الأساسية كالطعام والملابس

وعلى غرار الصين التي تدير في المنطقة منظمة شنغهاي للتعاون وتروج لـ”طرق حرير جديدة”، تحاول تركيا، منافسة موسكو التاريخية في هذه المناطق على مر القرون، تسجيل نقاط.

ويشير ليفيستون إلى أن أنقرة “أنشأت مجلس الترك الذي سمّي في فترة لاحقة منظمة الدول الناطقة بالتركية والتي توسعت تدريجا لتشمل كل الدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى فضلا عن أذربيجان، وهو ما يمهد لتشكيل “عالم تركي” بمصالح إستراتيجية متنوعة تمكنه من أن يصبح قوة إقليمية محددة.

وتساءل ليفيستون “منذ بدء الحرب في أوكرانيا تقيم تركيا شركات عسكرية مع كل دول آسيا الوسطى تشمل طاجيكستان غير الناطقة بالتركية ما يطرح فعلا سؤالا لمعرفة ما إذا كانت منظمة الدول الناطقة بالتركية ستتحول إلى حلف سياسي – عسكري محوره أنقرة”.

وقال أصلان “في حال فشلت روسيا في أوكرانيا ستصبح هذه المنظمة أكثر نشاطا”.

واستفادت تركيا من توتر العلاقة الروسية مع الغرب خلال السنوات الماضية على أكثر من مستوى، فلم تقف عند كونها بوابة إضافية للغاز الروسي نحو أوروبا، بل نجحت في أن تتحول إلى معبر لمنتجات آسيا الوسطى خاصة من النفط والغاز، وهذا أحد نجاحاتها ومكاسبها من التدخل في الحرب إلى جانب أذربيجان.

ويريد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من خلال الاستمرار في دعم خيار “العالم التركي” إعادة تأسيس إمبراطورية تركية بمواصفات جديدة تقوم على شبكة المصالح والارتباطات مع دول قائمة ومهمة ومؤثرة أو مع دول تنتظر دعمه.

ويقول كبير الباحثين في أكاديمية وزارة الخارجية الروسية فلاديمير أفاتكوف إنّ “أنقرة تريد أن تصبح سيدة العالم التركي؛ فأكثر القوميين الأتراك تطرفا واثقون من أن جميع الأتراك يجب أن يتوحدوا تحت راية تركيا ويعيشوا وفقا للقواعد التركية”.

ولم يقف اهتزاز روسيا في نفوذها الإقليمي عند عودة النزاعات، ذلك أن دولا مثل كازاخستان سعت إلى الحياد في حرب أوكرانيا بدلا من أن تكون أقرب إلى موسكو بسبب تداخل المصالح سياسيا وجغرافيا واقتصاديا.

ولم يعرب أيّ مسؤول في كازاخستان عن دعمه لموسكو منذ غزوها أوكرانيا في فبراير الماضي، ولا حتى عن تفهمه “المخاوف الأمنية الروسية المعقولة” كما قالت الخارجية الصينية. وبدلا من ذلك رفض رئيس كازاخستان قاسم جومارت توكاييف علنا دعم روسيا بالرغم من أفضالها عليه؛ إذ تدخلت في يناير الماضي لمنع احتجاجات واسعة كانت تستهدف الإطاحة به.

عدم تحرك روسيا النسبي ومنظمة اتفاقية الأمن المشترك قد يترك الساحة مفتوحة لنفوذ تركيا الداعمة لباكو

ويقول محللون إن التدخل الروسي كان يهدف أساسا إلى منع سقوط أيّ منطقة جديدة مما يسمى بـ”العالم الروسي الأكبر”، وليس إنقاذ توكاييف في حد ذاته.

ولم تعترف كازاخستان بالجمهوريات الانفصالية في منطقة دونباس الأوكرانية ولم تساعد روسيا في الالتفاف على العقوبات الاقتصادية. كما لم تسمح بأيّ تفاعل شعبي داعم لروسيا وحظرت رموز الدعاية العسكرية الروسية وألغت استعراض يوم النصر في 9 مايو.

وتدرك كازاخستان جيدا أنها مقيدة بحواجز لا يمكنها تجاوزها، مثل اعتماد اقتصادها على روسيا للحصول على المواد الأساسية كالطعام والملابس، إذ تغطي الواردات القادمة من روسيا أكثر من 40 في المئة من احتياجات السوق الكازاخية.

ووجد الكازاخيون أنفسهم يواجهون نقصا في السكر وارتفاعا في أسعاره عندما أوقفت روسيا تصديره هذا العام بسبب مخاوف من النقص المحلي.

ويشير تيمور إيمروف، الزميل في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إلى أن روسيا تريد الإبقاء على الوضع الراهن في علاقاتها مع كازاخستان، لافتا إلى أن موسكو تدرك أن موقفها التفاوضي في أدنى مستوياته، وهي تحتاج إلى مشاركة أستانة في تحمل عبء العقوبات من خلال استيعاب بعض الشركات الروسية والسماح بالتصدير الموازي للبضائع الخاضعة للعقوبات.

العرب