الحرب من أجل السلام

الحرب من أجل السلام

كلمة السلام واحدة من أكثر الكلمات المستخدمة والمحبوبة التي تحظى بالاحترام في العالم. إنها كلمة مرموقة. لا أحد يتكلم ضد السلام، ولا يخطر مثل ذلك ببالنا. ومن الطبيعي أن يقف الجميع إلى جانب السلام.

غالبًا ما يتم التعبير عن السلام في الصلوات والرغبات. كان هذا هو واقع الحال منذ قرون. وهناك ملايين الناس الذين يبدأون يومهم بعبارة “السلام عليكم”.

وعادة ما تترجم هذه العبارة إلى اللغات المختلفة بمعنى مشابه، بتحية تحتوي على معنى السلام.

يعادل هذه العبارة في العبرية لفظ “شالوم”. وتشتق أسماء سليم، سليمان من هذا الجذر. ولهذه الكلمة، “سلام”، معان أخرى في سياق الأديان: السعادة، والخصوبة، ورحمة الله. وفي المسيحية هناك قول مشابه لـ”السلام عليكم”. لكنه يميل إلى أن يعني، في السياق الديني، “السلام الداخلي”.

بمعنى آخر، يخبرنا المعنى عن كون الإنسان في سلام مع نفسه -وبالطبع مع الله. لكن الكلمة الأساسية هي دائمًا “السلام”.

وفي البوذية أيضًا، كلمة السلام أساسية؛ فالغرض الأساسي لذلك الدين هو إحلال السلام والسلام الداخلي للناس.

هذا ما قصدته عندما قلت إن كلمة سلام هي كلمة مرموقة: يعتنقها الجميع. ولكن، ربما يمكن أن تصبح كلمة مبتذلة بسبب الإفراط في استخدامها.

كما أنها تفقد مصداقيتها مع إساءة الاستخدام. لم يعد معنى كلمة “السلام” واضحًا إذا كان الجميع يستخدمون الكلمة نفسها، سواء من أجل السلام أو الحرب، مثل شعار.

وإذا كان الشخص الذي لا يقاتل يستخدم الصلاة نفسها، ويستخدم الكلمة نفسها، فإن معنى الكلمة لا يعود واضحاً. بل إنه ربما يكون بلا معنى.

على سبيل المثال، يمكن لليهود والمسلمين الذين يقولون إنهم يرغبون في السلام ويعبرون عن السلام والطمأنينة في تحياتهم، أن يقاتلوا من أجل مبادئ مختلفة تمامًا.

ومن الواضح أن الأطراف ليست ضد السلام، لكن لديها بعض “الخطوط الحمراء”. وتجعل هذه الخطوط الحرب حتمية. بعبارة أخرى، “الحرب” قديمة قدم “السلام”.

أعتقد أن كلمة السلام تدين بوجودها للحرب. إن الحرب هي الأساسية والسلام هو الرغبة. والحرب هي ما يوجد اليوم، بينما أصبح السلام حالة سعيدة نريد أن نعتقد أنها ستحدث في المستقبل.

لا يمكننا أن نفهم معنى السلام من دون فهم الحرب.

لنلق نظرة على “الخطوط الحمراء” التي تمنع تحقيق السلام. إننا نرى مواقف متناقضة في هذا المجال. أولئك الذين يفضلون السلام لديهم أيضًا خطوط حمراء وشروط عادة ما لا يستوفيها الطرف الآخر. والنتيجة هي الحرب.

كان هتلر واحداً من القادة الذين تحدثوا عن السلام أكثر من غيرهم. سوى أنها كانت هناك بعض الشروط فقط: يجب أن يكون الجميع غير مسلحين، وإلا يجب أن يكون لدى الجميع عدد متساوٍ من الأسلحة؛ يجب أن يكون لدينا حدود دولة “طبيعية”؛ يجب أن يكون لدينا الحق في الدفاع عن حقوق مواطنينا في البلدان المجاورة؛ يجب أن يكون لدينا الحق للعيش خارج حدودنا حيث يمكننا التدخل. فإذا تم الوفاء بهذه الشروط، لن تكون هناك حرب. كان السلام، وفقًا لهتلر، أعظم شيء منشود.

عندما ننظر الآن إلى اللغة التي استخدمها هتلر بين العامين 1933 و1940، فسوف نرى أنه استخدم لغة “سلمية” تثير دهشتنا اليوم.

وقد نُشرت بعض تصريحات وادعاءات هتلر في مصدر ألماني في الأربعينيات كما يلي: “نحن ملزمون بضمان أمننا”؛ “نحن نسعى جاهدين إلى ضمان السلام والسعادة والتنمية الاقتصادية في أوروبا”؛ “نحن ضد سباق التسلح”؛ “نحن مع القيم الأخلاقية والإنسانية”؛ “التسلح غير العقلاني يضر بالإنسانية المتحضرة”؛ “يجب علينا إعادة بناء أوروبا في جو من الاحترام والثقة المتبادلين”؛ “إنهم لا يستجيبون لنداءاتنا من أجل السلام”؛ “لا مفر من اتخاذ الاحتياطات بينما يحمل الطرف الآخر السلاح”؛ “لقد تدخلنا لمنع نشوب الحرب الأهلية في النمسا، التي تعد جزءًا من ألمانيا، وأنقذناها”؛ “لقد طلب التشيك مساعدتنا وقمنا بحمايتهم”؛ “لقد فعلنا هذا من أجل الدفاع عن النفس والسلام”؛ “لقد تدخلنا في بولندا لإنهاء التوترات الداخلية وإفشال خططهم العدوانية”، “قلنا للدول الأوروبية بصدق إننا لا نريد تغيير حدود البلاد”، “يجب أن نعلِّم أطفالنا السلام، وليس الكراهية”، “نريد العدالة السياسية وتطبيق المبادئ الاقتصادية العادية”؛ “إن الآخرين هم الذين يعرضون السلام للخطر”.

عندما أقول إن كلمة السلام تفقد مصداقيتها، فإنه يكون لدي هذا الخطاب وخطابات مماثلة في الذهن.

أحياناً يصبح معنى السلام متداخلاً مع النفاق، وازدواجية المعايير، والأكاذيب والديماغوجية.

أولاً، إننا نقوم بتكييف لغتنا مع الغرض: على سبيل المثال، نسمي وزارة الحرب “وزارة الدفاع”.

ويمكننا أن نطلق على حرب كلاسيكية -بطريقة أورويلية- “حركة سلام”.

الخيارات الصعبة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي: ثالوث القوة، المساعدات، والسلام (2-1)

ونحن نعطي محاولة النهب والابتزاز اسما نقدسه: “الفتح”. ثم ننشر أدب الفتح والغزو ونحوله إلى صنم.
إننا نبني ثقافتنا على الحرب، وتعليمنا، وقيمنا، ومدارسنا، ومتاحفنا، وأفلامنا، ومسلسلاتنا، وقصائدنا، ومنحوتاتنا، والأسماء التي نطلقها على أطفالنا، وينبع اختيارنا لأولئك الذين نختارهم كأسلاف مجيدين دائمًا من هذا الفهم.

إن تفضيلاتنا ومراجعنا دائماً ما تكون مع الأحداث والأشخاص والقيم المرتبطة بالحرب. ويغذي هذا الوضع فهمًا معينًا: السلام في الكلمات، والحرب في الممارسة.

نحن دائما نتحدث عن السلام ونريد السلام. سوى أن لدينا بعض الخطوط الحمراء: أنهم، “الآخرون” لن يطمعوا في أرضنا، ولن يرغبوا في تغيير حدودنا، ولن يلمسوا مواطنينا في أي مكان في العالم، ولن يتدخلوا في إخواننا في الدين، ولن يتدخلوا في شؤوننا الداخلية، ولن يتدخلوا مع أولئك الذين يعيشون بيننا، ولن يفكروا في دعمهم، ولن يقيدوا حرياتنا وحقوقنا، ولن يهينوا علَمنا، ولن يمسّوا أشياء أخرى كثيرة.

على سبيل المثال، لن يهينوا شيوخنا، والأشياء التي نعزها، والمعاني التي نقدرها، ورموزنا. لن يحاول أحد تهديدنا غدًا، حتى لو كنا خارج حدودنا، وسوف يحترمون تصوراتنا لهذه المسألة، سوف يتعاملون مع الرهاب الذي يصيبنا بفهم، ولن يقلقوا بشأن أخطائنا البسيطة وسيظهرون تفهمًا؛ وفي الأثناء، لن يعترضوا على تدخلنا في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وسيأخذ جيراننا “نصيحتنا” على محمل الجد، وسيحبون ماضينا.

سوف يقبلون بأن أسلافنا كانوا متسامحين وعادلين، ولن يقولوا أي شيء مختلف عنهم؛ لن يتحدُّونا، ولن يستخدموا الكلمات التي نعتبرها تحديًا، والتي تفسد معنوياتنا ومزاجنا.

هذه هي الخطوط الحمراء الأولى التي تتبادر إلى الذهن. وفي حالة انتهاك هذه الخطوط، يحق لنا أيضًا “الدفاع” عن أنفسنا. ومن دون ذلك، لا توجد مشكلة وسيكون هناك سلام. عندما نكتب هذه الخطوط الحمراء واحدة تحت الأخرى، تصبح الورقة البيضاء حمراء بالدم.

ومع ذلك، هناك موقف لا نريد قبوله، أو لا نرغب في رؤيته: أن السلام له ثمن بقدر الحرب. من لا يلجأ إلى الحرب، لا يستطيع تحقيق بعض الأشياء، ويخاطر بخسارة بعض الأشياء.

وهذا ما لا يتحدث عنه مؤيدو السلام: إنهم لا يقولون أبدا ما هم على استعداد لخسارته -وليس كسبه- من أجل السلام.

إنهم يضعون قائمة بخطوطهم الحمراء. لكننا لا نعرف أبدًا خطوطهم الخضراء. لأنه لا يوجد منها شيء. حتى أن هناك محرمات وضعت في هذا الصدد. على سبيل المثال، يتم التعبير عن الخطوط الحمراء بعبارات مثل القضية الوطنية، والمصلحة الفضلى للبلاد، وبقاء الدولة، والمصلحة الوطنية، ولا يتم ذكر الخطوط الخضراء. في الواقع، الكلمات المؤيدة للسلام هي إجراء لخداع كل الذين حولنا، وأنفسنا أيضاً.

بالنظر إلى الخطوط الحمراء المذكورة، دعونا نطرح السؤال الآتي: كم من هذه الخطوط الحمراء يمكننا التخلي عنها حتى لا تكون هناك حرب ويكون هناك سلام؟ أو فلنطرح السؤال بطريقة أخرى: بماذا سنضحي من أجل السلام؟ هناك محرمات في الدول القومية تمنع طرح هذا السؤال؛ وكلنا نعرف ما: مصلحة البلد، بقاء الدولة، المصلحة الوطنية، إلخ.

لماذا يجتمع الناس من مختلف الأديان والأعراق من حين لآخر ويناقشون مسألة “السلام”؟ لأننا نعلم جميعًا أن الحروب الحديثة (أي في القرون الأخيرة) تحدث بين أشخاص من ديانات مختلفة وأعراق (جنسيات) مختلفة. والحروب المعنية اليوم هي على الأغلب قومية وعرقية.

للحديث عن السلام، يجب مناقشة ماهية الجنسية. وإلى أن تتم معالجة المثل العليا والمبادئ والمعتقدات والمحرمات -وبالطبع الخطوط الحمراء- للدول القومية وفحصها وفهمها، سيظل البحث عن السلام متعلقاً بالأشواق الدينية التي تم التعبير عنها منذ آلاف السنين.

من الناحية النظرية، ينبغي القيام بذلك. ولكن من أين نبدأ من أجل إصلاح هذه الأشياء وتطبيعها في الممارسة العملية؟

ربما من الأطفال، على ما أعتقد. على سبيل المثال، إذا لم نسمهم بأسماء وألقاب دموية: حرب، غزوة، سهم، وغيرها من الأسماء والألقاب المثيرة عرقيا.

إذا عبر هؤلاء الأطفال الجسور التي تحمل أسماء سلاطين لم يقاتلوا أبدًا في التاريخ؛ وإذا تجولوا في شوارع مسماة باسماء العابدين والمثقفين الذين لا يرون الإنسان عدوا، وإذا كانت أسماء المدارس التي يذهبون إليها تذكِّر بالفنانين والرياضيين والأشخاص الذين اشتهروا في مجال الفكر… فإن مراجعنا وقيمنا ربما تتغير. وإلا نكون قد فقدنا معنى السلام بعد أن فقدنا السلام.

إننا نتوق إلى السلام لدرجة أننا حريصون على الركض إلى الحرب على الطريق! ومع ذلك، يجب أن نتعلم التخلي عن أشياء كثيرة من أجل السلام.

الغد