ظل النظام الذي أسسه الراحل الخميني في إيران محتفظاً بشعارات جعلها طابعاً تقليدياً له لعقود طويلة، غير أن مجريات الأحداث ـ خلال السنوات الأخيرة ـ تشير إلى فقدان النظام لامتياز رفع أو استعمال تلك الشعارات التي يجب القول إنه أجاد صياغتها أولاً، ثم أجاد توظيفها منذ مجيئه إلى السلطة في طهران عام 1979.
ومن هذه الشعارات شعار «الموت للديكتاتور»، وهو الشعار الأشهر الذي عرفت به الثورة على النظام الملكي، حيث تمت صياغته لاستهداف كامل المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة، إبان حكم الشاه محمد رضا بهلوي، مع انفتاح دلالة «الديكتاتور» على الشاه كملك متفرد، ونظام متسلط، حسب رؤية ورواية ثورة 1979.
وقد كان لهذا الشعار دور كبير في تفجير مشاعر الغضب خلال فترة الثورة التي سيطر عليها التيار الديني، رغم الزخم اليساري والليبرالي الكبير الذي فجرها، حين كان حماس الشباب هادراً في شوارع طهران وغيرها من المدن، وهم يرددون ذلك الشعار الذي استهدف الاغتيال المعنوي للشاه بتجريمه وتجريم نظامه، تمهيداً لإسقاطه مادياً، وهو ما كان.
والواقع أن ملامح ليبرالية يمكن أن تُستشف في بنية هذا الشعار، إذ لا يشير خطاب الهيئات الدينية ومجتمع الحوزات إلى استعمال مفردة «ديكتاتور» في حق الحاكم المتسلط، ولكن الخطاب الحوزوي يستعمل مفردات ذات إيحاءات دينية واجتماعية من مثل «جائر، مستكبر، ظالم، غاصب»، وغيرها من مفردات تغترف من القاموس السوسيو-ديني الذي يزخر بمثل تلك الكلمات، وعلى وجه الخصوص في نسخته الشيعية، التي راكمت قدراً كبيراً من المفاهيم والمصطلحات ـ في هذا الخصوص ـ ضد «الآخر المذهبي» الذي يُنظر إليه على أساس أنه «مغتصب لحق أهل البيت».
وعلى الرغم من أن صياغة شعار «الموت للديكتاتور» كانت بعيدة ـ إلى حد ما ـ عن السياقات الحوزوية في إيران، إلا أن «الخمينيين» جعلوه شعارهم أثناء الثورة، في محاولة منهم للاندماج ضمن المكونات الرئيسية للثورة التي لم تكن في معظمها ذات خلفيات دينية.
ومهما يكن من أمر، فإن النظام الأقرب للنسخة الثيوقراطية في إيران لم يكن يدر بخلده ـ وهو يقطف ثمار ثورة الإيرانيين ضد الشاه ـ أن الجيل الذي تربى في عهد الثورة سوف يخرج إلى الشارع رافعاً الشعار ذاته «الموت للديكتاتور»، ولكن ضد رموز هذا النظام في الاحتجاجات التي كانت تنفجر في إيران بين الحين والآخر، سياسياً ومطلبياً، منذ العام 2009 وما قبله، ومروراً باحتجاجات 2019، وصولاً إلى احتجاجات اليوم التي فجرها وفاة شابة إيرانية اعتقلت في أحد أقسام الشرطة، بسبب مخالفتها لـ«الحجاب الشرعي».
مهما تكن مآلات هذه الموجة الحالية من الاحتجاجات داخل إيران، فإنها وما سبقها من حركات احتجاج أسهمت وستسهم في سلب النظام الإيراني قدرته على الاستمرارية في توظيف شعاراته التقليدية المختلفة
مرتْ مياه كثيرة تحت الجسر فيما يبدو، ومر زمن كافٍ لحدوث «انزياح» اجتماعي وثقافي ومفاهيمي، أعيد بموجبه تشكيل «صورة خامنئي» على «هيئة الشاه»، والفارق الوحيد شكلي، لا يخفي حقيقة أن «الديكتاتورية الطائفية» التي تحكم إيران اليوم لا تختلف إلا من ناحية الشكل عن «الديكتاتورية العلمانية» التي كانت تحكم قبل عقود من الزمن.
ومع ذلك، لا يبدو أن النظام في طهران في وارد إدراك مغزى أن يصرخ الشباب الإيرانيون اليوم بشعاره الشهير ولكن ضده، ومعنى أن يحل «خامنئي» محل «الشاه» في مدلولات وإحالات مفردة «ديكتاتور»، ومعنى أن تعم الاحتجاجات مراكز القوى الدينية التقليدية في قم ومشهد، وأن ينتفض أهالي «خمين» ضد النظام الذي أسسه ابن مدينتهم، إذ لا يزال النظام يرى أن ما يجري من احتجاجات عمت معظم البلاد ما هو إلا «مؤامرة»، فيما أشار محافظ طهران إلى أن محتجين أجانب كانوا يثيرون «أعمال الشغب»، وتحدثت وسائل إعلام إيرانية عن «تواجد عناصر داعش الإرهابية» في إقليم أذربيجان، في محاولات مكشوفة لخلط الأوراق.
ومن أهم الشعارات التي سلبتها الاحتجاجات من النظام «شعار المظلومية»، وهذا الشعار له أبعاده التاريخية ودلالاته الطائفية، كما ذكر سابقاً، وقد برع النظام في صياغة «نظرية المظلومية»، وبرع في توظيفها للاستفادة منها داخل البلاد في تشديد القبضة الأمنية والعسكرية لأجهزته ومؤسساته المختلفة على كافة مناحي الحياة في إيران، كما نجح في توظيفها خارجياً لتشديد قبضة ميليشياته في بلدان عربية يسعى للتحكم بها.
ومع ذلك فقد تعرضت شعارات النظام المبنية على أساس «المظلومية»، سواء «مظلومية الحسين»، أو «مظلومية الشعوب»، تعرضت تلك الشعارات للاهتزاز، وتدل هتافات المحتجين سواء في إيران أو في العراق أو لبنان على «انزياح» دال يضع النظام الإيراني ومليشياته في خانة «الظالمين»، ويجعل المحتجين وضحايا هذا النظام في إيران وخارجها ضمن دائرة المظلومين الذين ظل النظام يتغنى بنصرته لهم لعقود طويلة.
وفي هذا الخصوص، يمكن الإشارة إلى أن الاحتجاجات عملت وتعمل على تهاوي البروباغندا التي يحاول النظام تكريسها حول أنه «حامي الشيعة والعتبات المقدسة»، بعد أن تم استهداف مواطنيه دون تفريق بين سنتهم وشيعتهم، واستهداف ميليشياته لـ«شيعة العراق ولبنان» بالقمع والقتل والخطف والتنكيل، وهو ما يضعف قوة دعاية «حماية العتبات المقدسة»، خارج إيران، بعد أن استهدفت الأجهزة الأمنية مواطني هذه العتبات داخل إيران نفسها.
كما أن حركة الاحتجاجات تلك قد عرضت «الفلسفة الأمنية» للنظام لكثير من الاهتزاز، بعد أن بات خلال الأيام الماضية عاجزاً عن السيطرة على كثير من شوارع عاصمته، وهو الذي طالما تفاخر بأنه يتحكم بأربع عواصم عربية.
وفي المجمل، ومهما تكن مآلات هذه الموجة الحالية من الاحتجاجات داخل إيران، فإنها وما سبقها من حركات احتجاج أسهمت وستسهم في سلب النظام الإيراني قدرته على الاستمرارية في توظيف شعاراته التقليدية المختلفة، بعد أن نقلت حركات الاحتجاج النظام من خانة «المرشد، نصير المظلومين، حامي الشيعة والعتبات المقدسة» إلى خانة «الديكتاتور الظالم الذي يقمع مواطنيه ولا يلقي بالاً لحرمة المقدسات»، وإذا ما تم سحب البساط الديني والأخلاقي من تحت ركائز هذا النظام، فإن ما يأتي بعد ذلك إنما هو تحصيل حاصل في انتظار عامل الزمن لإنضاجه.
القدس العربي