جدّد القصف الإيراني لإقليم كردستان العراق، الأربعاء الماضي، التساؤلات حول الكيفية التي تنظر بها طهران إلى شمال العراق، وعن مدى قلقها من تلك المنطقة التي بدت في بعض الأحيان خارج نطاق النفوذ الإيراني الممتد حولها. ويتخذ هذا القلق أكثر من بعد، انطلاقاً من الأمني وصولاً إلى الاقتصادي والجيوسياسي.
بغداد – استدعت وزارة الخارجية العراقية السفير الإيراني في بغداد احتجاجا على قصف إيران لمناطق في إقليم كردستان، وذلك بعد أن صعّدت إيران من حدة تعاملها مع الكرد إثر علاقة شابها الكثير من التحورات خلال العقود الماضية.
وقد قتل القصف الإيراني 14 شخصاً وخلّف أكثر من 58 جريحاً، في استهداف لما قالت إيران إنه مواقع لأحزاب كردية إيرانية في كردستان دعمت الاحتجاجات الجارية الآن في شوارع إيران.
واستهدفت إيران أربع مناطق في الإقليم، وقال قائد السلاح البري بالحرس الثوري الإيراني العميد محمد باكبور إن قواته استهدفت مواقع المجموعات الكردية المعارضة في كردستان العراق بـ73 صاروخاً باليستياً والعشرات من المسيرات الانتحارية المفخخة، مضيفاً قوله إن “الأهداف كانت في 42 نقطة متفرقة وأحياناً كانت تبعد عن البعض 400 كيلومتر”.
هناك عدة عوامل تتحكم في الكيفية التي تتعامل بها إيران مع إقليم كردستان العراق، في مقدمتها اقتناع راسخ لدى الحرس الثوري الإيراني بأن الإقليم يمكن أن يكون ساحة لعمل الموساد الإسرائيلي، بحكم العلاقة القديمة والمتواصلة لزعماء الإقليم مع الإسرائيليين.
ويشكل ذلك عاملا أساسيا في جعل ملف إقليم كردستان ملفا أمنيا خالصا، يضاف إليه الدور الذي يلعبه الإقليم في الساحة السياسية العراقية، وعلاقات الإقليم مع الأحزاب والتيارات السنية والشيعية التي تتفاوت فيها المواقف الكردية ولا تتقاطع بالضرورة دوما مع الرؤية الإيرانية.
يأتي بعد ذلك ما استجد من عرض تقدم به رئيس وزراء إقليم كردستان مسرور بارزاني الذي قال في منتدى الطاقة العالمي الذي انعقد في دولة الإمارات إن “إقليم كردستان سيبدأ بتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا قريباً”.
نظرت إيران إلى خروج إقليم كردستان عن الإدارة المركزية للدولة العراقية في عهد الرئيس الراحل صدام حسين بعد غزو الكويت وما نتج عنه من تداعيات على أنه حالة عراقية، لكنها حالة خاصة لم تضع لها إيران المعادلات ذاتها التي أدارت بها الشأن العراقي الشيعي أو السني؛ استفادت من الكرد العراقيين في حربها ضد العراق في الثمانينات، وعادت إلى الحذر منهم بعد أن باتوا يشكلون على حدودها ما يشبه الكيان.
في كردستان العراق يوجد حزب العمال الكردستاني التركي الذي تتحكم به إيران في جبل قنديل، في المقابل توجد عدة أحزاب كردية إيرانية معارضة لطهران، ما يشكل بيئة غير آمنة للإيرانيين مهما كانت علاقاتهم وثيقة مع قادة الإقليم، ولم يكن مفاجئاً أن تعارض إيران استفتاء انفصال إقليم كردستان عن العراق الذي نظَّمه رئيس الإقليم السابق مسعود بارزاني في عام 2017، بينما دعمته إسرائيل بشكل غير رسمي.
يستهدف الحرس الثوري أهدافاً في قضاء جومان وناحية سيدكان باستمرار بسبب وجود الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني في تلك المناطق. وفي وثائق الإيرانيين تصريح مهم للأمين العام السابق لمجلس تشخيص مصلحة النظام، محسن رضائي، في عام 2016 قال فيه إن السعودية “قدّمت مساعدات لأحزاب معارضة إيرانية وفتحت قنصليتها مقرات لهذه المعارضة، وقد جرت العملية بمجملها في مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان، كما قامت السعودية ببناء مقرات لهذه الأحزاب قرب الحدود الإيرانية”.
إضافة إلى ذلك، وحسب دراسة نشرها مركز الإمارات للسياسات، فإن الإيرانيين مازالوا يرون في منظمة “مجاهدي خلق” مصدر تهديد لهم، ويقولون إن المنظمة تعمل على التواصل مع بعض الأطراف العراقية السُّنية برعاية أميركية للدفع باتجاه تعزيز فكرة إنشاء “إقليم سُنّي” في العراق.
تطوير قدرات إقليم كردستان في إنتاج الغاز قد يقوي الحكومة المركزية في بغداد التي تعتمد على الغاز الإيراني
تطورت حالة الشك بين الطرفين حتى وصلت إلى نزع مخالب رئيس الإقليم مسعود بارزاني، ولم يطل الوقت حتى أخذ الحرس الثوري الإيراني يضيّق عليه الخناق أكثر، وذلك عبر قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني، الذي قرّر فرض سيطرة القوات العراقية وفصائل الحشد الشعبي على كركوك ومعظم المناطق المتنازع عليها كعقاب صريح على التفكير في الانفصال.
قُتل سليماني، فكان الرد الإيراني بشن هجوم على كردستان العراق، عبر استهداف قاعدة حرير التي تتواجد فيها قوات أميركية.
وفي ربيع هذا العام وجّهت إيران ضربة صاروخية أخرى ضد أحد المراكز المدنية في أربيل، وقال الحرس الثوري آنذاك إن الهدف كان خلايا للموساد الإسرائيلي، وإن الضربة انتقامية ضد التحركات التي يقوم بها الموساد انطلاقاً من شمال العراق والتي كانت عبارة عن انطلاق مسيرة إسرائيلية باتجاه قاعدة كرمنشاه العسكرية الإيرانية.
وقال المتحدث العسكري باسم الحرس الثوري “إذا لم تقم السلطات العراقية بالعمل على إزالة القواعد التابعة للموساد في هذا البلد الذي صار فيه إقليم كردستان يتحول إلى منصة لتهديد أمننا الداخلي، فإننا سوف نرد على هذا التهديد، ودون تردد”، وبدءاً من ذلك التوقيت بدأت الضربات التي تنفذها جماعات تابعة لإيران تتكرر ضد إقليم كردستان.
ترى إيران أن من يقود السياسة في إقليم كردستان يتموضع بعيداً عنها وعن المحور الذي تشكله في المنطقة، وذلك من خلال علاقة البارزانيين مع الإسرائيليين، بينما تجد في حليفها الاتحاد الوطني الكردستاني صديقاً مستأمناً. وفي الوقت الذي تعود فيه علاقات البارزانيين مع إسرائيل إلى عهد الملا مصطفى بارزاني طور ورثته تلك العلاقات إلى تعاون استخباراتي دعمته الولايات المتحدة، واستغلته إسرائيل بعد إنشاء المنطقة الآمنة فوق خط عرض 36 التي صارت تعرف باسم إقليم كردستان، حين تغلغلوا فيها تحت جناح المنظمات الإنسانية والإغاثية.
تقول بعض التقارير إن الكرد، وبرعاية إسرائيلية، يخوضون مفاوضات مع أطراف عديدة للإسهام في تصدير الغاز الطبيعي العراقي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، لاسيما مشروع خط أنابيب يصل من دهوك، ليلتقي بخط آخر انتهت الشركات التركية فعلياً من إنجازه ويقع على مقربة من الحدود العراقية.
ويمتلك إقليم كردستان احتياطيات مهمة من الغاز الطبيعي تصل إلى 25 تريليون قدم مكعبة، ونجاح مشروع خط دهوك سيجعل من إقليم كردستان تهديداً اقتصادياً منافساً لكل من روسيا وإيران.
وترى إيران أن تطوير قدرات إقليم كردستان في إنتاج الغاز قد يقوي الحكومة المركزية في بغداد التي تعتمد على الغاز الإيراني لتشغيل محطات الطاقة الكهربائية، وهو ما لا تريده طهران، على الرغم من أن المحكمة الاتحادية في العراق، وبدفع من أذرع إيران العراقية، أصدرت قراراً يقضي بعدم دستورية عقود بيع نفط وغاز إقليم كردستان التي وقعت خلال السنوات الماضية.
الغاز أحد أبرز الأهداف الموضوعة على خارطة الاستهداف العسكري الإيراني لإقليم كردستان، وبالفعل فقد تم ضرب القصر العائد إلى باز رؤوف البرزنجي، مالك شركة كار في أربيل، بعد أن تحول هذا المكان إلى مقر تعقد فيه اللقاءات التشاورية حول مشروع نقل الغاز الطبيعي وبحضور إسرائيلي، كما تعرَّضت مصافي هذه الشركة لهجوم بثلاثة صواريخ انطلقت من مناطق مجاورة لمحافظة أربيل.
وتخدم إيران حليفاً مهماً لها يعاني أزمة دولية كبرى هذه الأيام، حين تجعل من إقليم كردستان عاجزاً عن المضي في مشروع تطوير إنتاج وتصدير الغاز، هو الحليف الروسي الذي يمتلك داخل الإقليم نفوذاً كبيراً قد يجد نفسه عرضة للتهديد في ظل العقوبات والعلاقات الوثيقة بين الإقليم والأميركيين، إذ تهيمن شركة روسنفت الروسية على قطاع الطاقة في شمال العراق، ولن يكون من مصلحتها أن يطرأ أي تغيّر على هذا الوضع.
العرب