النظام السياسي العراقي بين رفض الداخل وقبول الخارج

النظام السياسي العراقي بين رفض الداخل وقبول الخارج

ما يميز انتفاضة العراق، البلد الغني بثرواته وحضارته والأشدّ بطالة وعوزاً لمواطنيه، هو وضوح أسبابها وصدق أهدافها الوطنية، من خلال إعلانها الثورة على النظام الطائفي، وفضح فساده الناتج من هيمنة الأحزاب التي جاءت من إيران والغرب على حقوقهم وثرواتهم، حيث شكلت أولوية قيام الجماهير الثائرة في ساحة التحرير في مدينة بغـداد وباقي مدن العراق، بإدانة وفضح سياسة الأحزاب الحاكمة التي جاءت من دول الجوار وباقي بقاع العالم، دليلا واضحا على طبيعة هويتها الوطنية العراقية واستقلاليتها عن أي نفوذ خارجي أو حزبي، ما يعطي لهذا الحدث المهم بعدا وطنيا مشابها للبعد الوطني لثورة العشرين، إذا أخذنا بعين الاعتبار حجم امتداد هذه الانتفاضة الوطنية وتوسعها في اتجاه أغلبية مدن العراق انطلاقا من العاصمة بغداد.
وعلى الرغم من أن أهم أسباب هذه الاحتجاجات التي يعيشها العراقيون هذه الأيام، يكمُن تفسيرها من خلال تدهور الحالة الاجتماعية للمواطن العراقي، بيد إن استمرارها وارتباطها بالأغلبية، بات يشكل انعطافه مهمة وتحولا سياسيا ومجتمعيا في طبيعة تطور أهداف المعارضة الشعبية، لتتحول في النهاية إلى انتفاضة وطنية بكل ما تعنيه الكلمة، حيث يتطلب من الآن اعتبارها الممثل الحقيقي للعراق، انطلاقا من كونها انتفاضة لم تولد نتيجة لمعارضة سياسية، أو توجيهات ودعوات حزبية أو طائفية، كما حاول البعض التشكيك باستقلاليتها أو تجييرها لصالحه، بل هي بمثابة الشعور الفطري بمكانة هذا البلد التاريخي الذي تحمله الأجيال العراقية، والذي يمثل من دون شك يقظة العراقيين، للتحرر من قيود التدخل الخارجي المتعدد الاتجاهات والأيديولوجيات، الذي باتت حالة تعدد الشخصيات الممثلة لهذه الأقطاب تُشكل الدعامة الرئيسية لبقاء النظام السياسي واستمرار تقاسم الأقطاب الخارجية لثرواته.
من الواضح، تميز علاقات هذه الأقطاب الإقليمية والعالمية بالعراق بخصوصيتها، وكونها تمثل علاقات دعم الأنظمة السياسية العالمية والإقليمية للنظام السياسي الطائفي العراقي، وليس كونها علاقات هذه الدول مع من يُمثل الشعب العراقي، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار طبيعة الدعم الغربي والإقليمي لممثلي العملية السياسية، ويمثل هذا الدعم، زيارات رؤساء الدول المؤثرة في العالم المتكررة لبغـداد، على الرغم من رفض أغلبية العراقيين لشرعية النظام الطائفي في العراق، من خلال الانتفاضة التشرينية العابرة للطوائف، التي أزالت ورقة التوت وكشفت حقيقة عدم تمثيله لمصالح أغلبية المجتمع وضبابية انعكاس الصورة التي يمثلها النظام السياسي في سياساته الداخلية، التي ترجمها صراع الأحزاب في البرلمان وطريقة قمعه للمتظاهرين، حيث تعكس السياسة الخارجية لأي بلد طبيعة النظام ونظرة نخبته السياسية لمصالح الشعب العليا. إن ما يحدث اليوم في البرلمان العراقي، هو نتيجة طبيعية للحالة التي وصل إليها المشهد العراقي، الذي تقوده أحزاب نظام عراق ما بعد 2003، التي لم تعرف الوفاق والانسجام في ما بينها لأسباب طائفية وعقائدية، حيث كان للنظام الجديد الذي رسمته القوى الخارجية، الدور الكبير في صناعة واجهة سياسية قائمة على المحاصصة الطائفية، لنظام غريب وعجيب مُرقع بمكونات وأحزاب هزيلة ومختلفة في ما بينها. ثمة من يرى أن تداعيات صراع البرلمان اليوم، لم تكن إلا حلقة في مسلسل فشل العملية السياسية الحالية، وسقوط أقنعة واجهتها العرقية والإثنية، نظرا لغياب تحكيم ودعم دولي موحد يستجيب لمطالب الشارع العراقي، لا يشمل النظام السياسي الذي صمم ليعمل بهندسة الاتجاهات المتعددة، نتيجة لتعدد عرابيه وتوافقهم على دعم النظام السياسي، على الرغم من رفض العراقيين لاستمراره. لقد عززت أزمة تعطيل عمل البرلمان لانتخاب حكومة جديدة، وما رافقها من فوضى سياسية وسقوط للضحايا وشتائم بين أحزاب الدين السياسي، التي لم تعرف الوفاق والانسجام في ما بينها، لأسباب طائفية وعقائدية، القناعة المطلقة لدى الشارع العراقي في أن ما حلّ لبلدهم، هو نتيجة طبيعية ومتوقعة فرضها عامل الخلاف بين الأحزاب، التي جاء بها نظام المحاصصة من جهة، وتناحر زعماء هذه الأحزاب في ما بينهم من جهة أخرى، حيث كان لسفراء القوى الخارجية في بغداد، الفضل الكبير في إدامة النظام السياسي خدمة لمصالحها، وغض النظر عن جرائم قتل المتظاهرين التي يرتكبها ممن يمثلهم في حكم هذا البلد، وما نشاهده اليوم من صراع بين الأحزاب الشيعية نفسها هو أحدُ نتائجِ تشظيّ ما سمي بتحالفِ البيت الشيعي، الذي كان يمثل الأساس السياسي والطائفي الأكبر حجما في تمثيل وتنفيذ وإدامة العملية السياسية وقيادة النظام في العراق.

لقد نقش الشارع العراقي هويته الوطنية الأصيلة بدماء شبابه، وطنية عراقية.. مدنية لا شيعية، لا سنية.. إنها ثورة كل العراقيين

لا شك في أن حجم الصعوبات والتداعيات المقبلة نتيجة استمرار دعم الأسرة الدولية لشرعية النظام السياسي ومن يمثله، سوف تثير جدلاً واسعاً حول استحالة ولادة قيادة وطنية جامعة قادرة على قيادة الشعب المنتفض، من غير أن تنحرف إلى طائفيتها وتحزبها، مقابل ضعف الجيش وتراجع هيبته، إضافة إلى تغلغل الأجهزة الخارجية في أمور المجتمع العراقي، واتساع تأثيرها في صنع القرار بشكل سلبي، نتيجة غياب القيادات السياسية الوطنية، التي ترضي القاعدة الوطنية في الشارع العراقي المنتفض، التي يُمثلها شئنا أم أبينا، الشيعي والسني، المسلم والمسيحي، العربي والكردي، وكل القوى الوطنية المؤمنة بسيادة العراق، التي تحمل راية الوطن في القلب والضمير. من هنا أصبحت عملية بروز شخصية عراقية تتمتع بصفة القائد القادر على جمع العراقيين، وإبعاد التشتت والانقسام الديني والقومي، أمرا من الصعوبة تحقيقه في ظل تنوع الاستراتيجيات الدولية، وتعدد الشخصيات العراقية التابعة لها في المشهد السياسي العراقي الجديد. لقد ترجم حراك الشارع العراقي ضد الأحزاب الحاكمة، من خلال رفع الشعارات المعادية للوجود الأجنبي، الذي لم يجلب للعراق سوى الخراب والطائفية ونهب الثروات وخيرات الأجيال القادمة، حقيقة الأسباب التي دفعت بالعراقيين في بدء هذه الانتفاضة الشعبية، وكما جاءت على لسان المنتفضين الذين هم ضحايا احتلال العراق وسرقة ثرواته، وسحق شعبه وإذلاله اجتماعيا وإفقاره اقتصادياً. إن استمرار انتفاضة العراقيين، التي دخلت عامها الثالث، تستلزم الضرورة للانتقال إلى مرحلة واقعية، وخطوة لا بد من قيامها ونشرها على نطاق شبكات المنظمات العالمية والأسرة الدولية، للحصول على تأييد عربي وإقليمي ودولي، لمد يد العون للشارع العراقي، الذي لا يملك القدرة الكافية للصمود أمام آلة الإقصاء والبطش التي تديرها الأحزاب الحاكمة، وهذا ما يلزم ويحتم على الجميع حمايتها وتوصيل صوتها إلى مراكز القرار الدولي، من أجل حماية العراق ودعم انتفاضة أبنائه في ساحة التحرير في بغداد ومدن العراق. لقد نقش الشارع العراقي هويته الوطنية الأصيلة بدماء شبابه، وطنية عراقية. مدنية لا شيعية، لا سنية. إنها ثورة العراقيين، كل العراقيين، وهي الأحق والأجدر بشرعيتها في تمثيل العراق في المحافل الدولية، خلافا لما تعمل به القوى العالمية الآن من دعم لنظام سياسي فاشل، فشتان ما بين دعم الأسرة الدولية لسيادة العراق المسالم بانتفاضته وحضارته ودعم نظام جلادي انتفاضته الشعبية.

القدس العربي