صدمة إيران في الحليف الروسي لا تقل عن صدمتها من الأمريكي بعد أن تكشفت الخلافات بين الرؤى والمصالح الإيرانية مع الرؤى والمصالح الروسية في سوريا، والمشكلة أن هذه الصدمة جاءت في أعقاب موجة غير مسبوقة من التفاؤل الإيراني لا ينافسها عن حالة التفاؤل لدى النظام السوري وكذلك «حزب الله» منذ اللحظات الأولى للتدخل العسكري الروسي في سوريا.
فقد توقعت كل هذه الأطراف أن هذا التدخل سيفرض معادلة جديدة لتوازن القوى داخل سوريا وصولاً إلى تحقيق معادلة سياسية جديدة لصالح النظام السوري خصوصاً في ظل تعمد الطائرات الروسية عدم الاكتفاء بضرب قواعد ومراكز تنظيم «داعش» بل امتدت إلى ضرب تنظيمات عسكرية مدعومة من أطراف عربية وإقليمية ودولية، وهي الضربات التي أدت إلى توقعات بإضعاف المعارضة السورية والتأثير سلباً في وزنها السياسي في أي مؤتمر مستقبلي للسلام حول سوريا.
فقد وجدت إيران ومعها نظام بشار الأسد نفسيهما وجهاً لوجه في صدام مع الحليف الروسي. فالتسرع الروسي للقبول بمسار الحل السلمي جنباً إلى جنب مع مسار الحرب ضد الإرهاب مثَّل صدمة كبيرة لإيران وبشار الأسد وهما من تصورا أن التدخل الروسي جاء ضمن معادلة فرض الحل العسكري أو على الأقل فرض معادلة توازن قوى جديدة لصالح النظام السوري تضمن للنظام أن يتسيد الموقف السياسي ويفرض شروطه للعملية السياسية وفي مقدمتها الاستبعاد النهائي لمقولة إبعاد بشار الأسد عن مستقبل سوريا كشرط يطالب به الطرف الآخر: الولايات المتحدة وحلفاؤها الدوليون والإقليميون وفصائل ومنظمات المعارضة السورية.
روسيا عبَّرت مبكراً عن هذا التوجه المزدوج عندما استدعت الرئيس السوري بشار الأسد منفرداً للقاء مع الرئيس فلاديمير بوتين حيث تأكد أنه كان يتعلق بدور الأسد شخصياً أو «مصير الأسد»، ما يعني أن روسيا تعمدَّت إرسال رسائل إلى الطرف الآخر بأنها هي الأخرى لم تعد تربط شرط بقاء الأسد بضرورة الدفع بحل سياسي لإنقاذ سوريا والحفاظ على وحدة الدولة السورية.
وجاءت الممارسات الروسية بعد ذلك لتؤكد أن هدف التدخل العسكري الروسي في سوريا ليس بالضرورة هو هدف النظام السوري وإيران، فقد أخذت معالم افتراق الرؤى والمواقف تفرض نفسها بين موسكو وكل من طهران ودمشق وكأن الطرفين يخوضان حربين في سوريا وليست حرباً واحدة. فالمهمة الروسية في سوريا تنطوي على رغبة في التفاوض وتهيئة ظروف الحل السياسي وعدم الصدام لا مع الولايات المتحدة أو حتى «إسرائيل» عسكرياً في سوريا.
تأكد التنسيق العسكري الروسي – الأمريكي في سماء سوريا لتجنب أي صدام بين الطرفين، لكن المثير في الأمر أن هذا التنسيق امتد أيضاً إلى «إسرائيل» ما يعني أن المهمة الروسية في سوريا تأخذ بعين الاعتبار المصالح «الإسرائيلية».
افتراق المصالح ظهر أيضاً في الاهتمام الكبير الذي توليه روسيا لإعادة الاعتبار للجيش السوري الذي كان يعتبر دائماً ورقة الرهان الروسية على مدى سنوات طويلة. هذا التوجه جاء بعد إعلان بشار الأسد وحديثه عن هزائم تحدث للجيش، الأمر الذي اعتبره الروس طلباً للنجدة من روسيا واعترافاً بأن إيران «لم تحقق شيئاً له اعتباره على الأرض».
التدخل الروسي جاء من هذا المنطلق وجاء بدافع من الحفاظ على المؤسسات وأبرزها الجيش على نحو ما ورد على لسان ميخائيل بوجدانوف نائب وزير الخارجية الروسي الذي أكد أن موسكو ستضرب كل من هو خارج الجيش وستتيح الفرصة للجميع للانضمام إلى الجيش، هذا يعني أن روسيا يمكن أن تضرب تنظيمات عسكرية وميليشيات موالية لإيران مثل «جيش الدفاع الوطني» و«اللجان الشعبية» و«كتائب البعث» إذا ما بقيت خارج الاندماج في الجيش السوري.
بجانب هذا التوجه اتجهت روسيا أيضاً إلى الترويج لدعوة تأسيس «مجلس عسكري» تبحث الآن عن تركيبته ضمن مسعى إعادة هيكلة الجيش وتنظيمه، يصعب أن يتم تحت إشراف بشار الأسد، انطلاقاً من قناعة مضمونها أن الجيش وحده هو من يضمن وحدة سوريا، وإذا كانت هذه المهمة تستلزم إعادة دمج العسكريين المستقيلين اعتراضاً على ممارسات سياسية وعسكرية خاطئة للنظام فإن هذه المهمة تتعارض تماماً مع كل ما يسعى إليه الأسد بدعم من إيران.
وجنباً إلى جنب مع هذا التوجه تتحدث روسيا بعد مؤتمر فيينا عن اعتبار «الجيش السوري الحر» منظمة غير إرهابية وتسعى إلى دمجه في العملية السياسية، مع تلميحات بدعمه بقصف جوي في حال انخراطه في قتال ضد «داعش»، ما يعني أن روسيا مستعدة للتنسيق مع المعارضة عسكرياً، وهذا ما أغضب إيران ونظام الأسد خاصة بعد إعلان رئيس إدارة العمليات في هيئة الأركان العامة الروسية الجنرال اندريه كارتابولوف (3/11/2015) أن «المقاتلات الروسية استهدفت 24 موقعاً لتنظيم (داعش) تم تحديدها بمساعدة المعارضة السورية».
لم يكتف الجنرال الروسي بذلك بل قال «لقد أعلنا مراراً استعدادنا للتعاون مع جميع القوى الوطنية السورية التي تقاتل ضد الإرهابيين من “داعش” وجبهة النصرة. أريد أن أحيطكم علماً بأنه في إطار التحالف الدولي الواسع لمكافحة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط، أقمنا اتصالات مع قادة المعارضة السورية والقادة الميدانيين لعدد من التشكيلات»، وتابع «لقد أنشأنا مجموعة تنسيق العمل والتي لا يمكن الإفصاح عن تكوينها لأسباب واضحة.
وتم تنظيم عملهم المشترك في تنسيق الجهود المشتركة الموجهة لحل مسألة محاربة داعش»، ثم أضاف موضحاً أن الطائرات الروسية والأمريكية أجرتا تدريبات مشتركة في الأجواء السورية لتجنب الاصطدام.
معالم هذا الافتراق في الرؤى والتوجهات الروسية عن مثيلاتها لدى إيران والنظام السوري ظهرت أيضاً في الرؤية الروسية لتفعيل العملية السياسية وفقاً لمؤتمر فيينا، فروسيا حريصة على إنضاج حوار سوري- سوري بين النظام وقوى المعارضة المعتدلة التي سوف يتم الاتفاق عليها كشريك في هذه العملية السياسية بحيث يضم هذا الحوار كافة أطياف المجتمع السوري بما في ذلك كل مجموعات المعارضة التي سوف يتفق على اعتبارها معارضة معتدلة.
وحرص سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي في اتصال هاتفي مع نظيره الأمريكي جون كيري على بحث «إمكانات الحصول على دعم دولي لتسوية الأزمة السورية على أساس حوار وطني، بما في ذلك تشكيل وفد مشترك من المعارضة السورية لإطلاق حوار سياسي مبكر وتوحيد المواقف في مكافحة الإرهاب».
إيران ترفض إطلاق مثل هذا الحوار وترفض أي تعاون مباشر أو غير مباشر مع واشنطن حول سوريا على نحو ما ورد على لسان علي أكبر ولايتي مستشار مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران للشؤون الدولية عقب لقائه مع فيصل المقداد نائب وزير الخارجية السوري في طهران، فقد أكد أن بلاده «لا تقبل بأي مبادرة لا تقبل بها الحكومة السورية والشعب السوري» في حين أعلن محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني أن «الشعب السوري وحده من يقرر مستقبله بنفسه ويجب عدم فرض أي شيء عليه».
في ذات الوقت تعمدت طهران التصعيد ضد الولايات المتحدة وعلى لسان المرشد الأعلى خامنئي الذي جدد شعار «الموت لأمريكا» مؤكداً أن هذا الشعار يحظى بسند عقلاني ومستلهم من الدستور». خامنئي أعاد التأكيد أيضاً على ضرورة عدم الثقة في أمريكا أمام آلاف الطلاب الجامعيين بمناسبة الاحتفالات الإيرانية ب«اليوم الوطني لمقارعة الاستكبار العالمي»، كما شدد على أن «الحقيقة المؤكدة هي أن أهداف أمريكا تجاه الجمهورية الإسلامية لم تتغير. ولو تمكنوا من تدميرها فإنهم لن يترددوا أو يتوانوا عن ذلك لحظة واحدة».
هذا الموقف التصعيدي الإيراني ضد الولايات المتحدة هو الوجه الآخر لتصعيد مكبوت ضد روسيا جرى إظهاره أحياناً مرة على لسان قائد الحرس الثوري عندما تعمد التنديد بالسياسة الروسية في سوريا بقوله إن «روسيا تعمل فقط من أجل مصالحها في سوريا»، ومرة بالتلكؤ في إظهار الموافقة على حضور الجولة الثانية من محادثات فيينا الخاصة بسوريا بعد تردد عن قبول هذه المشاركة تحدثت فيها عن عزم على الانسحاب من تلك المحادثات وهو موقف يكشف أن إيران لم تعد ترى في روسيا حليفاً لها في سوريا بعد قراءة دقيقة للموقف الروسي وبالذات المسعى للتوصل إلى حل قائم على قاعدة «لا غالب ولا مغلوب».
هذه التطورات تعتبر تحديات مبكرة لمصالح إيران في سوريا سوف تنعكس حتماً على مستقبل علاقات إيران مع روسيا وهذا هو التحدي الأهم لطهران الآن.
د.محمد السعيد إدريس
صحيفة الخليج