في عالم الجريمة السياسية هنالك العديد من أنواع الاغتيالات، منها الاغتيال المعنوي، الذي يُراد منه تشويه سمعة الخصوم، والاغتيال الفعلي الذي يضع حدا لحياة الخصوم.
ومع النفق المظلم الذي دخلهالعراق في السنوات الأخيرة، أصبحت لعبة الاغتيالات من الأساليب الرخيصة لتصفية الخصوم في العراق، سواء بطرق رسمية أو غير رسمية.
وفي نهاية سبتمبر/أيلول الماضي كشفت السفارة الأميركية ببغداد أنها “أحبطت محاولتين لاغتيال حيدر العبادي، وتم اعتقال ضباط اعترفوا بضلوعهم في تلك المحاولتين”، وجاء ذلك بعد أن تعهد الرجل بالمضي في إصلاحاته ولو كلفته حياته.
“يبدو أن العبادي لا يمكنه المضي قدما في مسيرته بسهولة، بسبب مشاكسات أغلب شركائه، والقيود الحزبية التي تكبله، خاصة أنه عضو في حزب الدعوة الذي اتُهم زعيمه نوري المالكي -وفقا لتقرير لجنة برلمانية- بالمسؤولية عن سيطرة تنظيم الدولة على الموصل”
ورغم تعهداته تلك فيبدو أن العبادي لا يمكنه المضي قدما في مسيرته بسهولة، بسبب مشاكسات أغلب شركائه، والقيود الحزبية التي تكبله، خاصة أنه عضو في حزب الدعوة الحاكم، الذي اتُهم زعيمه نوري المالكي -وفقا لتقرير لجنة برلمانية- بالمسؤولية عن سيطرة تنظيم الدولة على مدينة الموصل.
ويُعد حزب الدعوة الإسلامية من أكثر الأحزاب العراقية انقساما، حيث شهد الحزب منذ تأسيسه على يد السيد محمد باقر الصدر في خمسينيات القرن الماضي أكثر من سبعة انقسامات، ولكنه استقر في نهاية المطاف على جناحين رئيسيين، هما: حزب الدعوة الحاكم بزعامة نوري المالكي، وحزب الدعوة تنظيم العراق بزعامة عبد الكريم العنزي.
حكم المالكي العراق ولايتين متتاليتين، استمرتا أكثر من ثماني سنوات، وبعد انتهاء ولايته الثانية قاتل للاستمرار في ولاية ثالثة، إلا أن الدستور وضعه في زاوية ضيقة، مما اضطر حزب الدعوة للبحث عن بديل، حيث تم اختيار العبادي رئيسا للوزراء.
وبعد تسنمه الحكم مباشرة وجد العبادي نفسه في الواجهة وفي مأزق حقيقي، حيث إن نصف البلاد خارج إطار سيطرة حكومته، وميزانية الدولة شبه فارغة، إضافة إلى تحديات تنظيم الدولة، والحشد الشعبي، والمليشيات، ورواتب الموظفين، والمشاكل المعقدة المتجددة مع الشركاء الكرد.
وبعد بضعة أشهر من حكمه، تفاجأ بالمظاهرات السلمية في عموم محافظات الجنوب -ذات الأغلبية الشيعية- المطالبة بالإصلاحات والخدمات، وهو ما دفعه إلى إعلان حزمة إصلاحات وقرارات، ومنها إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ونواب رئيس الوزراء، وهي الخطوة التي فتحت الباب على مصراعيه لخلافات داخل حزب الدعوة، فضمن المشمولين بإلغاء مناصبهم نوري المالكي، زعيم الحزب ونائب رئيس الجمهورية، الذي لم ينفذ قرارات الحكومة بإخلاء القصر الرئاسي، وما زال -حتى الساعة- يمارس عمله نائبا لرئيس الجمهورية.
التحديات الصعبة التي واجهت العبادي دفعته لكشف المستور، حتى مع أعضاء حزبه الحاكم، ومنها تصريحه في الثالث من الشهر الماضي الذي أكد فيه أن “الفساد المستشري في البلاد سببه هبات القائد الضرورة للكسب الانتخابي”، في إشارة واضحة للمالكي، وأنه” تسلم الحكومة وفي خزانتها ثلاثة مليارات دولار، مقابل ديون قدرها 15 مليار دولار لشركات النفط”.
“ما يمكن وصفه بمحاولات الاغتيال المعنوي للعبادي بدأت منذ الساعات الأولى لاستجابته غير الكافية لمطالب المتظاهرين في مدن الجنوب، وإعلانه حزمة الإصلاحات الأولى، حيث أعلن شركاء العبادي أن بعض تلك القرارات غير دستورية”
والواقع أن ما يمكن وصفه بمحاولات الاغتيال المعنوي للعبادي بدأت منذ الساعات الأولى لاستجابته غير الكافية لمطالب المتظاهرين في مدن الجنوب، وإعلانه حزمة الإصلاحات الأولى، حيث أعلن شركاء العبادي أن بعض تلك القرارات غير دستورية، وبعضها الآخر لتصفية حسابات شخصية وسياسية، ولذلك اندفعوا لتحريك أتباعهم للمشاركة في المظاهرات، والتحشيد ضد رئيس الحكومة لقلب طاولة الإصلاحات عليه، ورفع شعارات ومطالبات كبيرة -ربما هي في المرحلة الحالية تعجيزية- لإحراجه.
وقد مثلت تلك المحاولات خطوات عملية لتشويه سمعة الرجل، ووضعه في خانة الاغتيال السياسي المعنوي، وأعتقد أن هذه المحاولات آتت ثمارها، وجعلت العبادي في مأزق حقيقي، لأن إصلاحاته لم تأت على أساس المشكلة، وإنما حاولت علاج النتائج. وبالمحصلة، لم يتمكن العبادي من إقناع الجماهير بخطواته الإصلاحية، وربما هو اليوم في عداد ضحايا الاغتيال المعنوي، وما أكثرهم في لعبة السياسة العراقية بعد عام 2003.
بيد أن ما هو أخطر من محاولات الاغتيال المعنوي ما قد تتجه إليه الأمور في ظل حالة الاستقطاب حتى داخل حزب الدعوة الحاكم نفسه.
فالتناحر بين أعضاء حزب الدعوة بدا واضحا نتيجة انتقادات العبادي لسياسات المالكي الخاطئة، وهذه الانتقادات أفرزت فريقين داخل الحزب: الأول مع العبادي، وهم الأقلية، والآخر مع المالكي، وهم الأكثرية, ووصلت الأمور مرحلة “التهديد بالخلع، أو الانقلاب العسكري”، كما صرّح بذلك أحد قيادات عصائب أهل الحق الموالية للمالكي.
والملاحظ هنا أن هناك العديد من الأطراف المستفيدة من تغييب العبادي عن المسرح السياسي العراقي، ومن بينهم: الزعماء الذين وجدوا أنفسهم دون مناصب، وكذلك سراق المال العام الذين رفعت عنهم الحصانة الحزبية والوظيفية، وصاروا تحت طائلة القانون، وأيضا قادة الجيش والمليشيات الذين ارتكبوا جرائم بحق المدنيين.
وفي ضوء حالة الاضطراب السياسي والغليان الشعبي، ما زال العبادي يواجه تحديا خطيرا يتمثل في احتمالية طلبه الاستعانة بالروس لضرب تنظيم الدولة وإخراجهم من المعادلة، وهو أمر لا يمكن تحقيقه دون الزج بقوات برية فاعلة في الميدان، وهنا ستكون بداية المشكلة الحقيقية، وهي أن القوات الحكومية -أغلبيتها من المليشيات التابعة للمالكي، ولبقية شركاء العبادي الذين لم ترق لهم إصلاحاته- ستماطل في تنفيذ أوامر العبادي في الميدان، رغم كونه القائد العام للقوات المسلحة.
وبالمحصلة سيكون العبادي -في ظل ضغطه على أغلب شركائه، والربكة المتوقعة من الفراغ الأمني، وسيطرة المليشيات على العديد من المدن- عرضة لمخاطر الانقلاب العسكري، أو الاغتيال والتصفية الجسدية، تمهيدا لعودة الأمور إلى المربع الأول، وتسلم المالكي زمام الأمور ثانية، أو ربما هادي العامري، زعيم منظمة بدر الموالية له.
“يمكن للعبادي مواجهة سيناريوهات الاغتيالات أو الانقلابات بجملة إجراءات مسبقة تكسب رضا الناس، منها الاستقالة العلنية من حزب الدعوة الإسلامية الحاكم، ليصبح زعيما مستقلا عن الجميع”
وإن حدث سيناريو من هذا القبيل، فإن الأوضاع ستتجه نحو مرحلة جديدة من الفوضى المصحوبة بموجة اغتيالات ونهب وحرق، تماما كما حدث في فبراير/شباط 2006، بعد تفجير المرقدينبسامراء، وقد تؤول الأمور لمرحلة الحرب الأهلية الشيعية الشيعية بين المليشيات المؤيدة والمعارضة للعبادي.
على أنه يمكن للعبادي إن أراد أن يتخلص من هذا المأزق، ويكسب تأييد نسبة لا بأس بها من الجماهير أن يتخذ بعض القرارات الجريئة، ومنها:
1. الاستقالة العلنية من حزب الدعوة الإسلامية الحاكم، بحيث يكون زعيما مستقلا عن الجميع.
2. تغيير رئيس المحكمة الاتحادية القاضي مدحت المحمود، وإبعاد القضاء عن الضغوط الحزبية والسياسية.
3. تقديم كافة المسؤولين المطلوبين -بغض النظر عن مناصبهم الحزبية والوظيفية- لمحاكم عادلة، من الذين أدينوا بملفات فساد مالي وإداري، وإساءة استخدام السلطات، أو المال العام.
4. إطلاق قانون العفو العام عن جميع السجناء على أن يستثنى من ذلك القتلة والمجرمين وزعماء المليشيات ومن ثبت تورطهم في إرهاب المواطنين، وإعادة دراسة ملفات السجناء، خاصة السياسيين منهم.
5. الدعوة لانتخابات مبكرة بإشراف دولي، ويحق للعبادي أن يترشح فيها.
هذه الخطوات العملية وغيرها -إضافة إلى الدعم الأميركي- يمكن أن تزيد من شعبية العبادي في الشارع العراقي، وحينئذ لا يمكن للجهات الساعية لتصفيته أن تقدم على خطوة اغتياله، لأنها ستكون في فوهة المدفع، وبالتالي لن تحقق الأهداف المرجوة من عملية الاغتيال المتوقعة.
جاسم الشمري
الجزيرة نت