يؤكد الموقف الأميركي الجديد إزاء مكافحة الإرهاب أنه على الرغم من النجاحات التكتيكية التي حققها في إحباط الهجمات وإلقاء القبض على الإرهابيين أو قتلهم، إلا أن المساعي الأميركية على مدى العقدين الماضيين لم تحقق النتائج المرجوة، من منظور استراتيجي.
إعادة تقييم كيفية مواجهة أميركا للإرهاب
عمدت إدارة بايدن، خلال عامها الأول في السلطة، إلى إعادة تقييم شامل لكيفية تصدي الولايات المتحدة للإرهاب والتطرف العنيف سواء على الصعيد المحلي أو في الخارج، علماً أن البلاد لم تشهد عملية تحول جذري مماثلة في موقفها إزاء مكافحة الإرهاب منذ هجمات 11 أيلول (سبتمبر).
ويقيناً، تمر الإدارات الأميركية كافة بفترات تتراجع فيها سياساتها لتنتقل بعدها من تنفيذ سياسات الإدارة التي سبقتها إلى تطبيق سياساتها الخاصة.
غير أنه عندما يتعلق الأمر بمكافحة الإرهاب، كان التحول الذي أحدثته إدارة بايدن أكثر جوهرياً من عهد أي رئيس آخر خلال السنوات العشرين الماضية.
وحتى التركيز الهائل على مكافحة الإرهاب في ظل إدارة جورج بوش الابن نتج عن هجمات 11 أيلول (سبتمبر) وليس من عملية مراجعة السياسة.
وبالفعل، خطط الرئيس بوش خلال الأيام الأولى من عهد إدارته للتحول نحو آسيا قبل أن يقلب تنظيم “القاعدة” هذه الخطط رأساً على عقب من خلال استهدافه الولايات المتحدة.
وفي المقابل، وصلت إدارة بايدن إلى السلطة بهدف واضح يتمثل في إعادة تحديد مفهوم التصدي للإرهاب والتطرف العنيف.
وشمل ذلك على المستوى المحلي مواجهة الارتفاع الكبير في التطرف العنيف الذي تمارسه الجهات الفاعلة من المتعصبين البيض والمعادين للحكومة وغيرها من “الجهات المتطرفة العنيفة ذات الدوافع العنصرية والعرقية” (“الجهات المتطرفة”)، والحرص في الوقت نفسه على توخي الحذر من التهديدات المستمرة التي تطرحها الجماعات الإرهابية الدولية على غرار تنظيمي “الدولة الإسلامية” و”القاعدة”، والجماعات التي يلهمها هذان التنظيمان.
وتكتسي إعادة تقييم الولايات المتحدة لعمليات مكافحة الإرهاب حول العالم التي طال انتظارها أهمية أكبر حتى من حيث المعايير البيروقراطية والميزانية.
وهذا يعكس الانتقال نحو منافسة القوى العظمى التي تحدد مفهومها في عهد الإدارات السابقة ولكنها لم تطبق فعلياً إلا في عهد بايدن.
وانبثقت أيضاً عن إدراك أن تبرير السياسة الأميركية لمكافحة الإرهاب كان ضرورياً من أجل تخصيص الأموال اللازمة لمعالجة مجموعة كبيرة من قضايا الأمن القومي التي لا تقل أهمية، بدءاً بصعود الصين وروسيا (قبل غزو أوكرانيا)، ومروراً بالتغير المناخي، ووصولاً إلى حاجات البنية التحتية وقضايا الصحة العامة وغيرها محلياً.
وهيمنت هذه التحديات على أجندة فريق الأمن القومي في إدارة بايدن خلال عامها الأول الذي تخللته أحداث مثل الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، ومجموعة من حملات الاعتقال والمحاكمات المرتبطة بالتمرد الذي شهدته واشنطن في 6 كانون الثاني (يناير)، والمخططات التي حاكها متطرفون محليون ودوليون على حد سواء، وشكلت المواضيع الرئيسية في “سلسلة محاضرات مكافحة الإرهاب” هذه.
وبينما شرعت إدارة بايدن في إجراء هذه التغييرات الجذرية في موقفها المناهض للإرهاب، تواصلت مع حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا والمنظمات الدولية مثل “حلف الناتو” لإعادة تأكيد التزام الولايات المتحدة بتعددية الأطراف والتخطيط لكيفية التعامل بشكل مشترك مع تداعيات تراجع حضورها على الساحة الدولية لمكافحة الإرهاب.
مواجهة التطرف الداخلي المحلي
أرغم التمرد الذي شهدته واشنطن في 6 كانون الثاني (يناير) بحكم طبيعته إدارة بايدن على منح الأولوية للتصدي للمعلومات المضللة والتطرف العنيف المحلي منذ أول يوم لها في السلطة.
فقد طلب الرئيس في أول يوم عمل كامل له بعد استلامه منصبه في 20 كانون الثاني (يناير) مراجعة شاملة لمدة 100 يوم لجهود الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب المحلي، وهي مشكلة “تطورت لتصبح التهديد الإرهابي الأكثر إلحاحاً الذي تواجهه الولايات المتحدة اليوم”، وفق بيان حقائق صدر عن البيت الأبيض لاحقاً.
وبعد ثلاثة أشهر، أدى ذلك إلى إصدار تقييم عن مجتمع الاستخبارات حول التطرف العنيف المحلي؛ حيث نشر “مكتب مدير الاستخبارات الوطنية” ملخصاً عن نتائجه بعنوان “ملخص غير سري عن تقييم التطرف العنيف المحلي”.
وحذر هذا المخلص من أن المتطرفين العنيفين المحليين الذين تحفزهم مجموعة من الأيديولوجيات وتحثهم أحداث سياسية ومجتمعية مختلفة تشهدها البلاد على التحرك، “يشكلون تهديداً متزايداً للوطن في العام 2021”.
وخلص التقرير إلى أن أكبر التهديدات جاءت من مرتكبي الجرائم المنفردين أو خلايا صغيرة من المتطرفين العنيفين المحليين.
وكانت الأشد فتكاً بين هذه التهديدات تلك التي نفذتها “الجهات المتطرفة العنيفة ذات الدوافع العنصرية والعرقية” أو المتطرفين العنيفين من الميليشيات؛ إذ تنفذ هذه “الجهات المتطرفة” على الأرجح هجمات تسبب إصابات (ضحايا جماعية تستهدف المدنيين، في حين تستهدف الميليشيات على الأرجح الموظفين الحكوميين ومسؤولي إنفاذ القانون.
وبعد مرور ثلاثة أشهر، وهي سرعة قياسية بالمعايير الحكومية البيروقراطية، أصدر البيت الأبيض أول “استراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب المحلي”.
وسلطت الاستراتيجية الضوء على حماية الحقوق والحريات المدنية كضرورة حتمية للأمن القومي، وشددت على الحاجة إلى برامج بقيادة المجتمع تهدف إلى منع الأفراد من الوصول إلى مرحلة ممارسة العنف الإرهابي.
وشملت أبرز مصادر القلق بالنسبة للمسؤولين الأميركيين الخلافات المجتمعية حول قيود الصحة العامة التي فرضها مرض “كوفيد -19” ومساعي المتعصبين البيض إلى إشعال حرب عرقية، والجهود الرامية إلى غرس بذور الاضطرابات المدنية وفتح المجال أمام أعمال العنف بهدف تسريع وتيرة الانهيار المجتمعي، أو ما يعرف بمبدأ التسريعية (التسارع).
وما يثير القلق بشكل خاص هو التحذير الذي أطلقه “مكتب التحقيقات الفدرالي” بشأن نزعة المتطرفين العنيفين المحليين إلى شن هجمات على أهداف مدنية سهلة، بما فيها دور العبادة ومتاجر البيع بالتجزئة والتجمعات العامة.
وفي غضون ذلك، تصدى “مكتب التحقيقات الفدرالي” ووكالات إنفاذ القانون الأخرى للمتطرفين العنيفين المحليين والذين اعتبرهم المكتب وفقاً لتقييمه، التهديد الإرهابي الدولي الأكبر الذي يواجه الولايات المتحدة.
فهؤلاء المتطرفين يستوحون عملياتهم من “المنظمات الإرهابية الأجنبية” على غرار تنظيمي “الدولة الإسلامية” و”القاعدة” ولكن دون الحصول على توجيهات فردية من هذه الجماعات.
وينمي هؤلاء المتطرفون مظالمهم المزعومة من خلال الحملة الدعائية القائمة أساساً التي تشجع على تنفيذ مشاريع إرهابية، في حين أن افتقارهم إلى الروابط الملموسة مع منظمة إرهابية أجنبية وتمتعهم بالقدرة على نشر التطرف والحشد بسرعة ودون أن يكشفهم أحد، يشكلان تحديات كبيرة لسلطات مكافحة الإرهاب.
الغد