عقب توقيع الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، على طلب انضمام بلاده إلى حلف شمال الأطلسي كردٍّ على ضمّ أراضٍ أوكرانية إلى روسيا، حذّر مسؤول روسي كبير من أن هذا الانضمام سيشعل فتيل حرب عالمية ثالثة، وقد سبقه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف في التحذير من هذا الخطر. ويستمر التلويح بهذه الحرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في سياقاتٍ مختلفة شملت الحرب الباردة والحرب على الإرهاب، إلا أن هذا الحديث في سياق مواجهة روسيا والغرب في أوكرانيا يشوبه قدر من الترهيب والمغالطة وتجاهل لواقع العلاقات الدولية في القرن 21، البعيد كل البعد عن سياق الحربين العالميتين الإمبرياليتين، اللتين جرّتا جزءا كبير من الدول إلى ساحة القتال، ما أضفى عليها طابع العالمية، فالحرب العالمية الأولى التي اصطُلح على تسميتها “الحرب الكبرى” أو “الحرب العظمى”، كانت إمبرياليةً، خاضتها كبرى الإمبراطوريات وحلفائها عبر العالم، من أجل التوسّع والهيمنة، وليس من أجل الدفاع عن الحرية والقانون الدولي وحقوق “الدول الصغرى” كما يحلو لبعض السياسيين البريطانيين والفرنسيين توصيفها في الاحتفالات الرّسمية بذكرى هذه الحرب. إذ فجّرت حادثة اغتيال طالب صربي ولي عهد النمسا فرانز فرديناند مع زوجته، عام 1914، صراع الإمبراطوريات الأوروبية على الهيمنة على دول البلقان وطرد الإمبراطورية العثمانية منها، وتنافسها الاقتصادي والتجاري من أجل بسط نفوذها عبر العالم بما يتيح لها التزوّد بالمواد الأولية والسيطرة على الأسواق العالمية.
بدأت الحرب بين الإمبراطوريات الأوروبية، فواجَه الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وروسيا وصربيا)، دول المركز، بزعامة النمسا وهنغاريا (المجر) وألمانيا. اتّسعت رقعة الحرب إلى ما وراء أوروبا وانضمت أميركا واليابان وإيطاليا إلى الحلفاء، بينما التحقت الصين والإمبراطورية العثمانية وبلغاريا بصفّ دول المركز، ثم تحولت إلى حرب إمبراطورياتٍ مع دخول جيوش مُستعمَرات كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا ساحة القتال التي امتدّت من جنوب شرق أوروبا، إلى غربها وشرقها، لتتعدّاها إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كانت هذه الحرب عالميةً بكل المقاييس، إذ فاق عدد الدول المشاركة فيها 70 دولة شملت كل القارّات، وبلغ عدد الجنود 70 مليونا، بمن فيهم حوالي 2،5 مليون مسلم شاركوا ضمن جيوش بريطانيا وفرنسا وروسيا ومملكة الحجاز.
غيّرت الحربان جغرافيا العالم، وأسقطتا الإمبراطوريات التقليدية، ونالت جل شعوب العالم استقلالها، وإنْ كان مبتورا ومشروطا وصوريا أحيانا
لم تختلف الحرب العالمية الثانية عن الأولى كثيرا، بل يعتبرها مؤرّخون امتدادا لها نظرا إلى خلفية الأطراف المتحاربة وطموحاتها الإمبريالية وإخفاقات تنفيذ معاهدة فرساي. كانت عالميةً بدورها، وشهدت مشاركة حوالي مائة مليون جندي، من أكثر من 30 دولة، وامتدّت رقعة القتال من آسيا إلى أوروبا، ومن الشرق الأوسط إلى شمال أفريقيا. وتقدّر مشاركة العرب والمسلمين فيها بحوالي خمسة ملايين جندي، اصطفت أغلبيتهم الساحقة إلى جانب الحلفاء.
وما زالت الرواية الغربية الرّسمية تردّد أن توسّع بلدان المحور، أو “قوى الشر”، هو الذي أشعل شرارة الحرب، بينما سعى الحلفاء، “قوى الخير”، إلى صدّ هذا التوسّع ومحاربة النازية والفاشية. لكن المؤرّخ البريطاني ريتشارد أوفيري، في كتابه “دماء وأنقاض: الحرب الإمبريالية الكبرى، 1931-1945” الذي صدر السنة الماضية، يقدّم قراءة جديدة تكذّب هذه السردية، ويعزو أسباب هذه الحرب إلى ذروة الاستعمار الأوروبي في أواخر القرن 19، ويجادل بأن بريطانيا وفرنسا وأميركا كانت راضيةً عن وضعها الإمبريالي، وعن سيطرتها على معظم أجزاء العالم، وحريصة على الاحتفاظ بها، وعدم تقاسمها مع ألمانيا واليابان وإيطاليا التي كانت تسعى إلى التوسّع بالقوة، ولتصحيح ما جاء في معاهدة فرساي التي لم تعتبرها منصفة لها.
لقد غيرت الحربان جغرافيا العالم، وأسقطتا الإمبراطوريات التقليدية، ونالت جل شعوب العالم استقلالها، وإنْ كان مبتورا ومشروطا وصوريا أحيانا، وتغيّرت أسس العلاقات الدولية التي كانت آنذاك تعتبر اللجوء إلى الحرب حتميا وضروريا لحلّ النزاعات التي تنشأ بينه الأمم. لكن، مع تأسيس الأمم المتحدة سنة 1945، ولأول مرّة في تاريخ البشرية أصبح القانون الدولي الذي يجسّده ميثاق المنظمة يُلزم الدول بتسوية النزاعات الدولية عبر الوسائل السلمية. لم تتغيّر قواعد العلاقات الدولية منذ ذلك الحين، رغم غزوات أميركا من فيتنام إلى العراق، ورغم غزوات روسيا من جورجيا إلى أوكرانيا، ورغم استمرار انتهاك فرنسا سيادة دول أفريقية عديدة. ما تغيّر هو انتهاك القانون الدولي من القوى التي ساهمت كثيرا في وضعه، وأمّنتها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على حماية الأمن والسّلم الدوليين.
اليوم، وفي ضوء تفكّك الإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية، يصعب التفكير في سيناريو يُجبر دولا صغيرة أو متوسّطة في آسيا وأفريقيا أو أميركا اللاتينية على الدفع بجيوشها إلى حربٍ تنذر باستعمال الأسلحة النووية، وتتواجه فيها روسيا البوتينية والغرب في الساحة الأوكرانية، بقيادة واشنطن. لقد تغيّرت الحرب أيضا، ولم تعد تقتصر على حرب الدبابات والمدافع والخنادق، وطوّرت العلوم والتقنية الحديثة طبيعة الحروب صنّعت أسلحة كيميائية وبيولوجية وقنابل نووية وسهّلت الهجومات السيبرانية، فضلا عن حروب طائرات بدون طيارين. ويتفوّق الغرب على روسيا، ويقف وراء أوكرانيا بحلفه الأطلسي (الناتو)، الذي يضم 30 دولة أوروبية، ويتوفر على جيش من 3.5 ملايين جندي، ويمتلك ترسانة أسلحةٍ لا تملكها نصف دول العالم مجتمعة، وتقوده واشنطن التي تصفع أي دولةٍ تخالف أوامرها بفرضها أقصى العقوبات المالية والاقتصادية والعسكرية، وتصادر احتياطاتها النقدية وغيرها.
من الحماقة أن تجازف أي دولةٍ بوجودها من أجل دعم روسيا التي يبدو أنها لم تحسِب حساب حرب الوكالة الغربية، وهي اليوم تخوضُ حربا بلا حلفاء، باستثناء بيلاروسيا التي أعارت أراضيها للجيش الروسي في غزوه أوكرانيا، وسمحت بنشر قواتٍ قتاليةٍ مشتركةٍ مع روسيا على حدودها، لكنها تمتنع عن المشاركة في القتال في أوكرانيا. وفي ضوء قوة الغرب الضاربة، تراقب الصين مسار الحرب بحذر، وتدرك روسيا أن شريكها الاستراتيجي لن يغامر بمكتسبات عقود من النمو الاستثنائي، من أجل توسّع موسكو في محيطيها الآسيوي والأوروبي.
ولأن جلّ الدول تعي خطورة العودة إلى الوراء، إلى اللجوء إلى القوة لحل الخلافات الدولية وانتهاك سيادة الدول وضم أراضيها بالقوة، دانت 143 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضمّ روسيا مناطق من أوكرانيا واعتبرته “غير قانوني”. وفيما امتنعت 35 دولة عن التصويت، عارضته روسيا، إلى جانب بيلاروسيا، وكوريا الشمالية، ونيكاراغوا، وسورية؛ ما يؤكّد افتقاد روسيا حلفاء بإمكانهم أن يُدخلوا العالم في حربٍ عالميةٍ ثالثةٍ على خلفية الصراع بين روسيا والغرب في أوكرانيا. “روسيا لديها حليفان فقط: جيشها وبحريّتها”، مقولة اعتاد القيصر ألكسندر الثالث على ترديدها، ويدرك بوتين صوابها، وهو يحضّر جيشا عرمرماً لمواجهة أوكرانيا وحلفائها في شتاء الحسم.
العربي الجديد