منذ أسابيع والانتفاضة ما زالت مستمرة في إيران، بعد أن أشعلت فتيلها وفاة الشابة مهسا أميني، التي اعتقلت بتهمة عدم وضع غطاء الرأس بصورة محتشمة، ثم توفيت بعد وقت قصير من إطلاق سراحها، فقيل إن سبب الوفاة كان التعذيب الذي لاقته على يد شرطة الأخلاق.
الاحتجاجات امتدت لتشمل طلبة الجامعات وحتى المدارس، وعلى الرغم من أن السلطات الإيرانية فرضت القيود على التظاهرات، لكن ذلك لم يمنع الفتيان والفتيات من الوقوف في وجه هذه السلطات. واليوم تبدو وفاة الشابة الإيرانية وكأنها النقطة التي أفاضت الكأس، فقد عبّر الناس عن غضبهم الشديد من النظام القائم في أعوام كثيرة كان آخرها في عام 2019. لكن ما يميز الموجة الجديدة من الاحتجاجات عن سابقاتها، هو أنها بقيادة المرأة وبدعم من الرجال، وأن مشاركة طلبة المدارس من أعمار صغيرة جدا، تعطي دليل على أن المستقبل هو الذي يصرخ في وجه النظام وليس الحاضر. كما أن الشعارات التي رُفعت تشير إلى أن الاحتجاج ليس على إلزامية ارتداء الحجاب، بل إن حادثة الحجاب أصبحت منصة رفع عليها المحتجون مطالب كرروها سابقا، منها رفض المنظومة الحاكمة ككل، وعدم الرغبة في الاستمرار في الخضوع لإملاءاتها، وضرورة تحقيق تغيير جذري في إيران.
وأمام هذا الوضع المتأزم يأتي السؤال المهم وهو، ما هي الخيارات السياسية الإيرانية أمام هذه الأزمة؟ ليس مستغربا أن يتهم المرشد الأعلى المتظاهرين بأنهم عملاء مأجورون للولايات المتحدة وإسرائيل، ولم تكن مفاجأة تلك الدعوة التي قدمها الرئيس الإيراني للأجهزة الأمنية، بالتعامل بحزم مع المتظاهرين، لأنهم يخلّون بالأمن واستقرار البلاد، على حد زعمه. كما ذهبت وزارة الخارجية الإيرانية اتجاه المرشد الأعلى نفسه، فحمّلت الولايات المتحدة مسؤولية الاحتجاجات، محذرة من أن المساس بالسيادة الإيرانية لن يمر من دون رد. في حين حثّ أزلام النظام مؤيديهم على تنظيم مسيرات في عدد من المدن الإيرانية تأييدا للسلطات الحاكمة. وعلى الرغم من أن التظاهرات اتسعت مساحتها الجغرافية، وتجاوزت الانتماءات العرقية والإثنية، وفق وحدة المعاناة الاقتصادية والاجتماعية والمطالب الجمعية بالحرية والتغيير، لكن هذه التظاهرات من السابق لأوانه تحديد وجهتها، ومن غير المتوقع أن تفضي إلى إسقاط النظام، لأن ذلك يتطلب تحركا شعبيا جماعيا ومتواصلا، ولديه رؤية متكاملة للتغيير. بمعنى أن يكون هنالك بديل للنظام القائم. صحيح أن الداخل الإيراني تتوفر فيه عناصر الثورة، رغم افتقاده للرؤية المتكاملة والبديل، لكن ذلك ليس كافيا لإحداث تغيير كبير، كما أن المعارضة التي تمتلك الرؤية والمشروع غير موجودة في الداخل، بل هي في خارج البلاد، ويبدو أن إمكاناتها في الداخل ضعيفة. يبقى هنالك عنصر آخر قد يكون مهما في عملية التغيير وهو العامل الخارجي، فهل الغرب والولايات المتحدة لديهم الرغبة في الاستثمار في التظاهرات لتغيير النظام؟
وصفت واشنطن قمع السلطات للمتظاهرين بالحملة المرعبة، وعبر الرئيس بايدن عن قلقه من ذلك وقال، إن الولايات المتحدة تقف إلى جانب النساء الإيرانيات اللواتي أذهلن العالم بشجاعتهن، حسب وصفه، لكن الأوساط السياسية الأمريكية والمنظمات الإيرانية المعارضة في الولايات المتحدة، اتهموه بالتخاذل في دعم المتظاهرين، وعند البحث في أسباب الموقف الأمريكي البارد من قمع النساء الإيرانيات، مقابل موقف واشنطن خاصة، والغرب عامة، المستنكر بصوت عال لأي مساس بحقوق النساء في الأقطار العربية يُبطل العجب، فبايدن مهووس بالتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وليس لديه الرغبة في إغضاب السلطات فيها بالضرب على وتر حقوق النساء، لذلك لن يلقى المتظاهرون منه سوى الدعم اللغوي، وعقوبات رمزية تافهة على شرطة الأخلاق الإيرانية، وهذه كلها لن تغير المشهد الإيراني. وحتى مسألة التسهيلات التكنولوجية التي قدمتها الواتساب وغوغل لتمرير الاتصالات من داخل إيران، فهو أقل ما يمكن فعله. أما الرغبة في التدخل أو حتى شهية التدخل في دعم التظاهرات في إيران فهي معدومة تماما، لأن الغرب والولايات المتحدة لا يعتبران النظام في طهران خطرا وجوديا. ولو تتبعنا ذلك حتى في زمن الرئيس السابق دونالد ترامب الذي بدا وكأنه ناصب طهران العداء، لم يدعم التظاهرات الإيرانية التي حصلت في عهده. إذن ليكن السؤال أكثر وضوحا، هل أمريكا والغرب وإسرائيل راغبة حقا في إسقاط النظام الإيراني؟
بايدن مهووس بالتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وليست لديه الرغبة في إغضاب السلطات فيها بالضرب على وتر حقوق النساء
ببساطة وبكل وضوح لا يريدون ذلك، هم يريدون تغييرا في سياسات النظام وإضعافه، كما أن عدم وجود بديل، والخوف من انتقام الميليشيات الإيرانية في الإقليم، تجعل الحماس لفعل ذلك فاترا، فالنظام الإيراني لم يتم إسقاطه منذ عام 1979، رغم كل أفعاله وتهدياته حتى لحلفاء واشنطن والغرب، لأنه لم يكن على عداء مطلق مع إسرائيل والولايات المتحدة، قد يُفنّد البعض هذا التحليل، لكن بماذا نفسر الصفقات التي أُبرمت مع إدارة ريغان بشأن السفارة الأمريكية في ثمانينيات القرن المنصرم؟ وماذا عن «إيران غيت» والحصول على أسلحة أمريكية بوساطة إسرائيلية أبان الحرب العراقية الإيرانية؟ وماذا عن المعلومات والتسهيلات التي قدمتها طهران لإسرائيل لضرب المفاعل النووي العراقي آنذاك؟ وكيف يسعى الغرب لإسقاط النظام الإيراني وهو شريك له في الاتفاق النووي، في حين أن له أولويات أمنية تتعلق بالتهديدات في اتجاه آخر مثل روسيا والصين؟ كما أن الغرب عينه على الطاقة التي تمتلكها إيران. وفي الولايات المتحدة الموقف نفسه تماما. هذا روبرت مالي المبعوث الأمريكي إلى إيران يقول (يجب أن يكون النظام الإيراني شريكا مع الولايات المتحدة). وهو لا يرى في طهران عدوا لواشنطن كروسيا والصين، بالتالي هنالك رغبة في أن يكون هنالك توازن في العلاقة معها. وحتى المتشددون في واشنطن لم يطالبوا بإسقاط النظام الإيراني على ضوء التظاهرات الجارية، يقول أحد الجمهوريين في الكونغرس دعونا نساعد الشعب الإيراني في إيصال صوته، ولا نعقد اتفاقا مع النظام كي لا يوجه الأموال التي سيحصل عليها في قمع الشعب الإيراني، بالتالي هذا هو سقف الحديث في الولايات المتحدة، ولن تُلهم التظاهرات في إيران الرئيس الأمريكي بايدن، كما ألهمت التظاهرات في بولندا ضد النظام الشيوعي الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، فدفعته للاستثمار فيها وتقديم الدعم لها إلى أن أُسقط جدار برلين. فملف بايدن رقم واحد هو التوصل إلى اتفاق قوي وجديد مع طهران.. صحيح هنالك مواقف صوتها أعلى من صوت جو بايدن في الولايات المتحدة، ولكن لا ترقى للدفع بأجهزة الاستخبارات الأمريكية لعمل تظاهرات ضد النظام، أو على أقل تقدير الاستثمار في التظاهرات القائمة حاليا. إن توجيه الاتهام من المرشد الاعلى وبقية مصادر القرار الإيراني للمتظاهرين بأنهم عملاء أمريكا وإسرائيل يثير الاستغراب حقا، لأنه إذا كان للعامل الخارجي كل هذا التأثير، الذي يصل حتى إلى دفع الفتيان والفتيات في مقتبل العمر للخروج ضد النظام، فما جدوى وجود هذه السلطة؟ وأين فلسفة النظام القائمة على محاربة الشيطانين الأكبر والأصغر؟ بل أين القوة الإيرانية القاهرة التي لطالما تبجح بها قادة النظام؟
القدس العربي