ما تزال الاحتجاجات الشعبية على وفاة مهسا أميني مستمرة في إيران، وكان آخرها تجمع لأقاربها ومواطنين في مقبرة بلدة سقز التي تنتمي إليها الفتاة الكردية جرت فيها مواجهات عنيفة، وتم قطع الانترنت عن البلدة، وكذلك أنباء عن إضراب محلات تجارية في عدة مدن منها سنندج ومهاباد وجوانرود وبوكان، وعن إضراب لمجموعة أطباء، وكذلك لمجموعة عمال في مصفاة طهران، وقبلها تجمعات لطلاب جامعات ومدارس في طهران وأصفهان.
من المشاهد التي تحمل رمزيّة مهمة في الاحتجاجات الأخيرة كان تجمع متظاهرين في شارع فلسطين بمدينة مشهد، وكذلك تجمع حشد لاستقبال الرياضية الإيرانية إلناز ركابي التي ظهرت من دون حجاب خلال مشاركة دولية (ثم ظهورها تلبس قبعة، كحلّ وسط، و«اعتذارها» حين عادت إلى بلادها)، وظهور شعار «المرأة، الحياة، الحرية»، الذي يرفعه المتظاهرون الإيرانيون.
تتميز الوقائع التي جرت بعد مقتل أميني بربطها بين الاحتجاج على طرق النظام و«شرطة الأخلاق» في استخدام قضية فرض الحجاب على النساء لتطبيق أشكال من العنف والانتهاكات والترهيب الذي يفيض عن قضية الحجاب ويتحوّل إلى نوع من الاستبداد. تكشف الاحتجاجات عن ضيق قطاعات من الإيرانيين من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد انعكس هذا بالتنوع الجغرافي والاجتماعي الذي احتلّت فيه القضية النسوية مكان الصدارة، وهو تطوّر غير مسبوق في البلدان الإسلامية عموما.
أظهرت الاحتجاجات أيضا اختلافات في الرؤية إلى ما يحدث ضمن صفوف النظام نفسه، فهناك شريحة وازنة داخل النخبة الحاكمة، على رأسها مرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي، تطالب بالتعامل بأقسى الشدة مع المتظاهرين، وتتهم أعداء إيران بتدبير «أعمال الشغب»، فيما قدم ساسة وبرلمانيون وأكاديميون، صراحة وعلنا، رؤية مختلفة لما يحصل، وانتقد بعضهم تطبيق قانون الحجاب الإلزامي.
أحد هؤلاء، وحيد خوراميان، وهو مهندس إيراني وشخصية بارزة على وسائل التواصل الاجتماعي، ورجل مخلص للإسلام وقيم جمهورية إيران الإسلامية، وعضو في إحدى شبكات اللجان الدينية في الأحياء التي تنظم مراسم حداد منتظمة لإحياء ذكرى الإمام الحسين، قال على شبكة «تويتر» إن «القمع هو القمع، سواء قامت به إسرائيل، أو أمريكا، أو إيران»، واعتبر أن ما فعله رجال الشرطة أهان الرجال المحافظين في البلد أيضا.
تخوض المؤسسة الإيرانية الحاكمة معارك واسعة مع أعداء خارجيين فعلا، وعلى رأسهم إسرائيل، التي لا تنكر عملها على تخريب المشروع النووي الإيراني (كما حصل مؤخرا في قرصة أحد خوادم البريد الالكتروني للمشروع)، وإدارتها، منذ سنوات طويلة، عمليات اغتيال لشخصيات علمية وعسكرية إيرانية.
تساهم الاحتجاجات الشعبية في الإساءة لصورة المنظومة الإيرانية الحاكمة عالميا، وتؤدي إلى صدور عقوبات دولية إضافية عليها، وهو ما تقابله السلطات بالمزيد من التشدّد تجاه المحتجين، وإلى ربط تحرّكاتهم (وخصوصا إذا أدت إلى عنف ضد رجال السلطة وأبنيتها) بـ«مؤامرات الخارج»، بحيث تتزامن تلك الاحتجاجات مع أخبار اعتقال متآمرين أجانب تذاع اعترافاتهم على أجهزة التلفزيون، أو الإعلان عن القبض على شبكة لجواسيس الموساد.
ما يتوقّعه المؤمنون بنموذج الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والذين يقدّرون جهودها في مكافحة إسرائيل ودعم الفلسطينيين، هو أن تتصالح مع شعبها، وأن تنصت لمطالبه، وأن تثق به، فهذه هي الطريقة الفضلى لمناهضة العدوان والتآمر عليها، النجاح في هذه المعادلة، قد يكون أهم بكثير من نجاح طهران في مفاوضاتها مع أولئك الأعداء لإعادة الاتفاق النووي، وإنهاء العقوبات التي أنهكت الشعب الإيراني.
القدس العربي