يمكن القول إن إصلاحيي إيران، بمختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم، يعيشون أكثر فترات حياتهم السياسية حراجة. فهم غير قادرين على اتخاذ موقف واضح لمصلحة أيّ من طرفي الأزمة التي تعيشها إإيران ويواجهها النظام جراء التظاهرات وموجة الاعتراضات التي اندلعت في عديد من المدن بعد مقتل الفتاة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق.
فإذا ما عدنا إلى المبادئ والمرتكزات التي قام عليها المشروع الإصلاحي، الذي عبر عنه الرئيس الأسبق محمد خاتمي في برنامجه السياسي في انتخابات 1997، نجد أنها كانت تتحدث عن الحريات الاجتماعية والفكرية والثقافية والشخصية وحرية التعبير، وقد تحولت خلال السنوات الثماني من رئاسته إلى ساحة صراع حقيقي بين الخطاب أو المشروع الإصلاحي وبين منظومة السلطة ومؤسسات النظام السياسية والفكرية والأمنية. بالتالي، انتهت إلى النتيجة التي يريدها النظام الذي استطاع إفراغ الخطاب الإصلاحي من مضمونه وتعطيل مفاعيله على المستوى الرسمي أو ترجمته على مستوى التشريعات البرلمانية.
لعل التعقيد الأبرز الذي يواجهه الإصلاحيون هو أنهم حافظوا على المساحة المشتركة التي تجمع بينهم وبين منظومة السلطة. فهم لم يقدموا أنفسهم كنقيض للنظام الذي قام على أسس تستجيب لإمكانية التطوير بما فيه من قابليات ديمقراطية تبنتها الثورة والدستور الذي تم التوافق عليه منذ البداية، بحسب أدبياتهم. أي أنهم قدموا أنفسهم دعاة إصلاح للنظام الذي خرج عن الأطر التي رُسمت له بعد انتصار الثورة، وليس كنقيض له، انطلاقاً من التزامهم بالدستور وكل ما جاء فيه حتى التعديلات التي أُدخلت عليه في استفتاء 1987، مع ضرورة إقرار بعض القوانين التي تعيد “ولاية الفقيه” إلى الإطار الدستوري والقانوني، بحيث لا تبقى سلطة فوق الدستور، وذلك من خلال مشروع القانون الذي تقدم به خاتمي حينها لتحديد الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية المصادرة من المرشد الأعلى.
هاتان الإشكاليتان تعتبران وتعبّران عن جوهر الخوف الذي سيطر على قوى منظومة السلطة، التي رأت في وصول خاتمي والخطاب الإصلاحي وما فيه من تعددية سياسية وحزبية وحريات شخصية واجتماعية وحرية تعبير، تحدياً لسلطتها ومشروعها لإقامة “الحكومة الإسلامية” التي تدور حول محور السلطة المطلقة لولي الفقيه الذي هو ولي أمر المسلمين والمرشد الأعلى للنظام وقائد الثورة.
وهاتان الإشكاليتان تعتبران أيضاً من أبرز الإشكاليات أمام القوى الإصلاحية في هذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها النظام ومعه إيران نتيجة الأحداث الأخيرة، لعدم قدرة هذه القوى والأحزاب على إعادة النظر في خطابها وتجديده وإعادة إنتاجه ليواكب التطور الاجتماعي والحراك الفكري والعلمي الذي حدث داخل الطبقة الشبابية التي كانت تشكل الحامل الاجتماعي للتيار الإصلاحي وأفكاره بما هي طبقة وسطى يقع على عاتقها عبء أي عملية تغييرية أو انتقالية.
وإذا ما كان الخطاب الإصلاحي قد خسر تأثيره داخل المجتمع الإيراني، وقد يكون من أحد أسباب ذلك خيبة الأمل نتيجة فشله في تحقيق العملية الانتقالية أو تهذيب خطاب السلطة وتصرفاتها وتعزيز سلطة القانون والدستور، إلا أن النظام لعب دوراً محورياً وأساسياً في إيصال الخطاب الإصلاحي وأحزابه إلى هذا المأزق وعزله عن التواصل والخروج من دائرة التأثير.
ويمكن القول إن النظام نجح في سياسة عزل الإصلاحيين وغيرهم من القوى السياسية، وإفشال أطروحة التعددية السياسية والحزبية وحرية التعبير، انطلاقاً من عقيدته بأن هذه التعددية تستهدف النيل من سيطرته وسلطته، وتعرقل مشروعه في إقامة “الحكومة الإسلامية” التي يطمح لها وتكون خارج دائرة المساءلة والرقابة والاستجواب، خصوصاً أن القوى الحزبية من خارج دائرة أحزاب السلطة أو الموالية للنظام التي تجمعت تحت عنوان “التيار المحافظ” رغم الخلافات والتباينات القائمة بينها، سعت خلال العقود الثلاثة الماضية لتكريس مفهوم “الحكومة الإسلامية” وتغليبه في إدارة النظام والسلطة على حساب مفهوم “الجمهورية”. وهذا المسار كان يفرض ويستدعي من القوى والأجهزة الممسكة بالسلطة والقرار العمل على إسكات الأصوات المعارضة والمدافعة عن المبادئ التي قامت عليها الثورة.
سياسة النظام ومنظومة السلطة بإخراج المنافسين والمعارضين الذين التزموا الدستور سقفاً سياسياً لحركتهم ونشاطهم في الحياة السياسية ودائرة التأثير، كشفت أن هذه المنظومة ورغم الشعارات الوطنية التي ترفعها لا تسعى لتعزيز الوحدة الوطنية والمشاركة السياسية أو الاعتراف بوجود أصوات خارج خطابها ومنطقها في إدارة السلطة. وقد اتسعت دائرة المواجهة بينها وبين هذه الأصوات حتى وصلت إلى داخل الجماعات التي تشكل الحامل لها والفاعلة داخل التيار المحافظ الذي تمثله، وقد ترجمت بالإقصاء والتهميش والمحاصرة.
وتبرز خطورة هذه السياسة وانعكاساتها السلبية على النظام ومنظومته بأشد صورها في هذه المرحلة بمواجهة الأزمة الأخيرة وموجة الاعتراضات التي تشهدها إيران، التي تجاوزت مسألة الاحتجاج على مقتل مهسا أميني لتتوسع وتطاول الأسس العقائدية والأيديولوجية وحتى الإدارية لهذه السلطة، خصوصاً بعدما استبعدت وأقصت كل القوى التي كان في إمكانها لعب دور الوسيط بينها وبين الشارع المعترض، وقطع الطريق على تحويل الخارج والمعارضة التي تسعى لإزالة هذا النظام وتغييره إلى مرجعية تملك التأثير في توجهات الداخل وحركته الاعتراضية.
لعل النظام في إيران يمر في أكثر فترات حياته حرجاً، فهو وإن استطاع السيطرة على الحركة الاحتجاجية وإعادة المتظاهرين إلى بيوتهم، إلا أنه سيكون مجبراً على تقديم تنازلات على الأقل في موضوع الحجاب والحركة النسوية التي تطالب بحرية الاختيار، سواء أكان بشكل علني ومباشر أم من خلال إشاحة النظر وتقييد نشاط شرطة الأخلاق وصلاحياتها. إلا أنه لن يكون قادراً على فتح قنوات حوار مع الجيل الجديد الذي كسر كل القواعد، ما جعل هذه المنظومة عاجزة عن فهمه والتواصل معه.
بالتالي، قد يكون النظام مجبراً على إدراك الخطأ الجسيم الذي ارتكبه عندما أخلى الساحة السياسية من أصوات المعارضة التي رفعت شعار الإصلاح من داخل النظام والآليات الدستورية، ولن يكون من السهل عليه ترميمها في المرحلة المقبلة، لانعدام الثقة بينه وبين هذه القوى التي لن تكون على استعداد لإعادة ترميم سلطة عملت وسعت لإسكاتها وإنهائها من الحياة السياسية والاجتماعية، فضلاً عن العجز الذاتي التي تعيشه هذه القوى نتيجة القطيعة القسرية التي فرضها النظام عليها وقطع كل وسائل التواصل بينها وبين القوى الشعبية.
اندبندت عربي