استقالة تراس وصعود سوناك لا يعكسان كل تغيرات أوروبا

استقالة تراس وصعود سوناك لا يعكسان كل تغيرات أوروبا

أثارت استقالة ليز تراس من رئاسة الحكومة البريطانية في العشرين من أكتوبر الماضي، بعد 44 يوماً فقط من تسلمها المنصب، ثم صعود ريشي سوناك العديد من التساؤلات حول ما يجري في الداخل الأوروبي، فقد تزامن ذلك مع تغيرات سياسية وتحولات إستراتيجية أخرى في العديد من الدول الأوروبية، وذلك في إطار التداعيات الناجمة عن الحرب الروسية – الأوكرانية، وما يشهده العالم من أزمات اقتصادية.

بروكسل – في سبتمبر الماضي كان الرئيس الأميركي جو بايدن يحذّر العالم من دخول مرحلة قال عنها إنها “فترة من عدم اليقين في ظل ارتفاع التضخم والحرب في أوكرانيا”، مضيفاً قوله إن “الولايات المتحدة هي اليوم في موقف أقوى من أي دولة بما يمكنها من تجاوز التحديات العالمية”، لكن هذا ليس حال أوروبا التي يبدو أنها دخلت تلك الحالة بالفعل ولا يُعرف كيف ستخرج منها ولا متى ولا كيف ستكون بعد اجتيازها.

وانطلاقاً من أحدث مستجدات الحدث الأوروبي المتحوّل، بدت استقالة تراس من رئاسة الحكومة وكأنها تعود إلى الفوضى الاقتصادية والمالية التي خلفتها الموازنة المصغرة التي قدمتها حكومتها وأدت إلى اضطراب الأسواق وتراجع قيمة الجنيه الإسترليني أمام الدولار الأميركي بشكل غير مسبوق.

فيما شهدت دول أوروبا مؤخراً سلسلة من التغيرات السياسية وعلى مستوى تشكيل الحكومات، فضلاً عن تحولات في المواقف الخارجية، واضطرابات داخلية، وذلك على وقع تداعيات الحرب في أوكرانيا وما أفرزته من أزمات اقتصادية تعانيها القارة مثل العديد من دول العالم.

وكانت أبرز الانتقادات التي تم توجيهها لتراس هي تجاوزها لنواب حزبها المحافظين وعدم استشارتهم مسبقاً في الخطوات التي أقدمت على اتخاذها، لذلك لم يقف هؤلاء النواب إلى جانبها داخل البرلمان، فيما قام رئيس الوزراء الجديد سوناك في أول خطاب له بعد توليه رئاسة الحكومة بإصلاح أخطاء تراس فوراً، لكنه أشار إلى وجود تحديات تحتاج إلى خيارات صعبة، كما يرى الباحث اللبناني نوار الصمد المتخصص في العلاقات الدولية والدبلوماسية في تحليل له نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.

بريطانيا ليست وحدها
تراس لم تكن وحدها التي تعيش مسار سقوط درامي، فقد حدث الأمر ذاته في بلدان أوروبية أخرى، كما حين تمكنت المعارضة في بلغاريا من إسقاط حكومة كيريل بيتكوف المؤيدة للغرب في يونيو من هذا العام، مستغلة الانقسامات داخل الائتلاف الحاكم، وإخضاع الحكومة للتصويت على الثقة في البرلمان على خلفية تدهور الأوضاع الاقتصادية. ووجّهت أصابع الاتهام إلى روسيا بالطبع.

كما لقي يانيز يانشا رئيس الوزراء السلوفيني السابق هزيمة في الانتخابات التشريعية التي أُجريت في أبريل الماضي. وكان يانشا من أوائل القادة الأوروبيين الذين زاروا كييف بعد اندلاع حرب أوكرانيا، وجاءت هذه الهزيمة أمام رئيس الوزراء روبرت غولوب، وتردد أن حكومة الأخير سوف توقف الدعم العسكري لأوكرانيا وتُبقي فقط على الدعم الإنساني.

اليمين الصاعد

قبل أن ينتهي شهر أكتوبر كانت جيورجيا ميلوني زعيمة حزب “فراتيلي ديتاليا” اليميني تؤدي اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية الإيطالي سيرجيو ماتاريلا كأول رئيسة لحكومة يسيطر عليها اليمين المتطرف في إيطاليا، بعد أن فاز حزبها في الانتخابات التشريعية التي أُجريت في شهر سبتمبر الماضي.

حاولت ميلوني توجيه إشارات طمأنة بتعيين رئيس البرلمان الأوروبي السابق المقرب من بروكسل أنطونيو تاجاني وزيراً للخارجية، وجيانكارلو جورجيتي المقرب من رئيس الوزراء السابق ماريو دراغي وزيراً للاقتصاد، لكن ثارت شكوك بشأن جدية تلك الإشارات.

وفي السويد، وفي أكتوبر ذاته الذي بدا كشهر للتحولات، تم تنصيب الحكومة الجديدة برئاسة أولف كريسترسون في سابقة تكشف تصدّر أول حزب يميني متطرف لنتائج الانتخابات في السويد. ووافق هذا الحزب على دعم الحكومة الجديدة في البرلمان، ومنحها الثقة من دون تولي أي حقيبة وزارية، ولكن في مقابل الالتزام بتطبيق خطته حيال ملف الهجرة.

تحولات إستراتيجية
العقوبات التي فرضها الأوروبيون على روسيا أضرت باقتصادها، إلا أنها تسببت في تداعيات كبيرة على أوروبا

في شمال أوروبا قررت فنلندا والسويد التخلي عن الحياد والانضمام إلى حلف “الناتو”، وبدأت تظهر أصوات في النمسا تطالب بإعادة النظر في مبدأ الحياد الذي تنتهجه البلاد منذ عام 1955. وكان المستشار النمساوي كارك نيهمر أول زعيم دولة أوروبية يزور موسكو في أبريل منذ بداية الحرب الأوكرانية حاملاً معه رسائل إنسانية وسياسية.

أما مولدوفا التي كانت إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، فسارعت إلى تقديم طلب رسمي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بعد أسابيع من اندلاع الحرب. وفي استفتاء أُجري هذا الصيف، صوّت الدنماركيون بنسبة 69 في المئة لصالح انضمام بلادهم إلى السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة للاتحاد الأوروبي.

وفاجأ رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الحلفاء بخروجه عن خط التضامن الأوروبي في ما يخص فرض العقوبات على موسكو، حيث عارض مقاطعة الغاز الروسي بحجة الدفاع عن مصالح بلاده التي تعتمد بشكل كامل على إمدادات الطاقة الروسية.

لاحقاً عارض أوربان مرور الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا عبر أراضي المجر، قاصراً التزامه فقط على تمرير المساعدات الإنسانية واستقبال اللاجئين الأوكرانيين، كما وقّعت حكومته اتفاقاً إضافياً مع شركة “غازبروم” الروسية.

كما صدرت عدة تصريحات مشابهة عن رئيس الوزراء اليوناني السابق أليكسي تسيبراس زعيم حزب “سيريزا” اعتبر فيها أن الاتحاد الأوروبي سيكون الخاسر الأكبر من حرب أوكرانيا. فيما رأى الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش أن أوروبا أصبحت على أعتاب حرب عالمية ثالثة.

تأجيل الاستقلال عن روسيا
وبالمقابل فقد تم طرح مبادرات جديدة للتخلص من التبعية لروسيا في الطاقة، إذ أرجأت بلجيكا تنفيذ قرارها السابق بجعل العام 2025 موعداً نهائياً لإيقاف العمل في جميع محطات الطاقة النووية لديها، وذلك لعشر سنوات إضافية تحسباً لارتفاع أسعار الطاقة وانقطاع إمدادات الغاز الروسي.

وعملت فرنسا على إعادة تشغيل مفاعلاتها النووية المعطلة، كما تحاول إقناع الجزائر بزيادة إمداداتها من الغاز إليها بنسبة 50 في المئة. ووقّع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اتفاقاً لضخ كميات من الغاز الطبيعي إلى ألمانيا، كما قررت الأخيرة، التي كانت تعتمد على الغاز الروسي لسد 56 في المئة من حاجاتها، وبعد تخفيض إمدادات خط أنبوب “نورد ستريم 1″، التوجه نحو خيار الغاز المُسال للمرة الأولى في تاريخها. ومن المتوقع أن تنتهي عملية بناء أول محطة للغاز المُسال في ألمانيا في شتاء العام القادم، على أن يتم استكمال هذا المشروع بـ4 محطات أخرى يمكنها تعويض 20 في المئة من الواردات الروسية التي كانت تشتريها ألمانيا.

أزمات تعصف بالمجتمعات

بارتفاع تكلفة المعيشة، شهدت دول أوروبا سلسلة من التحركات الاحتجاجية. ففي فرنسا، عطّل إضراب عمال مصافي النفط الذي بدأ في السابع والعشرين سبتمبر الماضي 6 مصافٍ للنفط تعود أغلبيتها إلى شركة “توتال إينيرجي” وذلك للمطالبة بزيادة رواتب العمال، وهو ما أدى إلى توقف العمل في 25 في المئة من محطات الوقود في البلاد. كما شهدت عدة مدن ألمانية تظاهرات رُفع فيها العلم الروسي.

وتتزايد المخارف من مخاطر وقوع انتفاضات مدنية في أوروبا، حيث يعتبر المحتجون أن تحرك الحكومات لم يكن كافياً من أجل إيجاد حلول مناسبة لأزمة التضخم وغيرها.

وأضرت العقوبات الاقتصادية التي فرضها الاتحاد الأوروبي على موسكو بالاقتصاد الروسي، إلا أنها تسببت في الوقت نفسه في تداعيات كبيرة على أوروبا. وأدى رفض شراء النفط الروسي إلى ارتفاع الأسعار، لأن الدول المنتجة الأخرى لم تكن لديها رغبة في تعويض انخفاض الإنتاج الروسي. كما تسبب تراجع تدفق الغاز الروسي لألمانيا ودول أوروبا الشرقية بمخاوف من تعرض أوروبا لأزمة طاقة كبيرة خلال الشتاء القادم، والتي تطال الاقتصاد والتدفئة المنزلية وتوليد الكهرباء.

ولأن أوروبا لم تكن تمتلك بعد مرافق كافية لتخزين الغاز الطبيعي المُسال، بالإضافة إلى ارتفاع سعره، فإن ذلك دفع بعض الدول الأوروبية إلى تقنين استخدام الغاز، وإيقاف التدفئة في المباني العامة، وتحديد درجة قصوى للحرارة يجب عدم تخطيها.

أبرز الانتقادات التي تم توجيهها لتراس كانت تجاوزها لنواب حزبها المحافظين وعدم استشارتهم مسبقاً في الخطوات التي أقدمت على اتخاذها

ويقدّر حجم المساعدات العسكرية المقدمة من الدول الأوروبية بما فيها بريطانيا إلى أوكرانيا بحوالي 12 مليار يورو حتى الشهر الماضي. فيما تم تقدير المساعدات الإنسانية الممنوحة من الدول الأوروبية لأوكرانيا بنحو 5 مليارات يورو.

وخلقت الحالة السابقة بكافة أبعادها تضخّماً في معظم الدول الأوروبية تجاوز عتبة الـ10 في المئة نجم عن الزيادة الكبيرة في أسعار الطاقة التي بلغت في بعض الدول الأوروبية نسبة 200 في المئة مقارنةً بما كانت عليه قبل اندلاع الحرب.

ولمواجهة هذه الزيادة، قررت الحكومة الفرنسية دعم أسعار الوقود بأكثر من ملياري يورو، كما أعادت تأميم شركة كهرباء فرنسا “إي.دي.إف” عبر شراء حصة بمقدار 16 في المئة لم تكن تمتلكها، فقد كانت حصة الدولة 84 في المئة، وبقيمة 9.7 مليار يورو، وذلك لحماية المستهلكين من ارتفاع أسعار الطاقة.

أما ألمانيا فقد وضعت خطة بقيمة 200 مليار يورو لمساعدة المستهلكين الذين يعانون من ارتفاع فواتير الطاقة. ولكن تم انتقاد هذه الخطة بداعي أنها لا تعمل على ترشيد استهلاك الطاقة، كما هاجمها بعض القادة الأوروبيين معتبرين أنها تقوض وحدة الاتحاد الأوروبي.

واقترحت الألمانية أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية مدعومة من 15 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي وضع سقف لأسعار الغاز على مستوى الاتحاد، إلا أن دولاً مثل ألمانيا وهولندا اعترضت على هذا الاقتراح.

وكانت حكومة تراس قد أعلنت قبل استقالتها أنها ستجمد فواتير الطاقة للأسر البريطانية على مستوى 2500 جنيه في السنة، وتتكفل بدفع ما يزيد على ذلك بتكلفة تصل إلى 25 مليار جنيه سنوياً لم توضح تراس حينها كيف ستوفرها.

سباق تسلّح
ويأتي قبل ذلك قرار دول الاتحاد الأوروبي زيادة الإنفاق العسكري للجيوش، فقد قررت إسبانيا في يوليو الماضي زيادة إنفاقها العسكري، وذلك تماشياً مع الهدف الذي حدده حلف “الناتو” بأن يكون الإنفاق في المجال العسكري مساوياً لنسبة 2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي.

وقال المستشار الألماني أولاف شولتس إن بلاده أمام “منعطف تاريخي” على ألمانيا اجتيازه، وأقر البوندستاغ الألماني تخصيص مبلغ 100 مليار يورو لتعزيز المنظومة العسكرية وتحديث الجيش.

كما أعلنت الحكومة البولندية رفع سقف إنفاقها العسكري إلى 3 في المئة، وخطتها لزيادة عدد جيشها إلى 300 ألف جندي، وفي بولندا يجري العمل بقوة لإيصال الإنفاق العسكري إلى نسبة 5 في المئة من الناتج المحلي.

لا يعود سبب تصاعد حضور تيار اليمين المتطرف في أوروبا إلى نشر “المعلومات المضللة” فقط، كما تروج بعض الدوائر المقربة من بروكسل، إذ غالباً ما يتم تجاهل عامل الإحباط الذي يدفع الناخبين إلى تجربة أحزاب اليمين المتطرف. وبالتالي فإن عدم الاستماع إلى هواجس المحبطين يمكن أن يقود إلى موجة جديدة من تقدم أحزاب اليمين المتطرف والتي بدأت في السويد ثم إيطاليا في العام الحالي، ويمكن أن تمتد إلى إسبانيا وبلجيكا اللتين ستشهدان انتخابات تشريعية في العام القادم.

ولم يعد يُنظر إلى التعاون بين يمين الوسط واليمين المتطرف في أوروبا على أنه من المحرّمات، خصوصاً أن العديد من أحزاب يمين الوسط سهلت هذه المهمة على التيارات المتطرفة عبر تبني مواقفها وإدراجها ضمن برامجها الانتخابية. كذلك فإن الأحزاب المتطرفة أصبحت تمتلك ما يكفي من البراغماتية لصياغة خطاب سياسي جديد تبتعد فيه عن التركيز على البعد العنصري، وتركز على انتقاد سياسات الهجرة واستغلال الشعور بالتشاؤم المُسيطر على الشعوب الأوروبية حالياً في ظل ارتفاع التضخم وتداعيات حرب أوكرانيا وإمكانية تمددها.

والواقع أن أوروبا تشهد بالفعل تغيرات سياسية كبيرة خلال الفترة الراهنة، قد تكون مقدمة لتحولات أكبر في المشهد في ظل عدم وضوح الرؤية.

العرب