مآل الحل السياسي في سورية قبل التدخل العسكري الروسي ليس ذاته بعد التدخل. ذلك أن لروسيا مقاربتها الخاصة التي توازي بين المصلحة الاستراتيجية والخلفية المتعلقة بالأديان والجماعات الإثنية. ففيما افترضت الأقليات في منطقة الشرق الأوسط أن النظام الدولي قادر على رعايتها وصيانة وجودها، بحسب جملة الادعاءات التي قدّمها الغرب خلال الحقبة العثمانية، ولاحقاً خلال مرحلة الانتداب، أتت النتائج مغايرة بخاصة أن الغرب العلماني لم يحسن وراثة سلفه الاستعماري في حماية الامتيازات التي خص بها الفئات المتعددة في المنطقة.
وفي أيام نفوذه القوي، بخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة، تعرضت هذه الجماعات للتراجع والتهميش السياسي كما حصل مع مسيحيي لبنان، وإلى التهجير والإبادة كما جرى مع المسيحيين والأزيديين في العراق إضافة إلى التحديات المصيرية التي تواجهها الأقليات حالياً في سورية. هذا الفراغ في الرعاية يتيح لروسيا ملأه، دعائياً على الأقل، وهي التي تحرص على توظيف الكنيسة الشرقية في لعبة التوازن مع الغرب وإعادة تكريس دورها المشرقي والتعامل مع القضية السورية من زاوية الحرص على التعدد والتنوع المجتمعي.
الجديد هو الاستدعاء الشيعي لهذه «الرعاية» بالمعنى السياسي، أو حتى العسكري، الذي يأتي بعد اتفاق إيران مع الغرب وانكفائها عن الصراع مع إسرائيل. وهذا «الاستدعاء» يطمس مسألة الأقليات ويرجح عليها قضية الصراع الإسلامي الداخلي، الذي تتحاشى روسيا التورط فيه بحسب ما تعلن.
طبعاً هذه الإشكالية ربما تختلط على القيادة الروسية، حيث تعكس وقائع المحادثات في فيينا الأولى والثانية ضبابية في الموقف الدبلوماسي الروسي، إذ تأخذه الرغبة في الظهور كحامٍ للتعددية الطائفية في سورية نحو تكريس بعض «الامتيازات» في الدستور واستعادة هذه الظاهرة التي يعتمدها الغرب تقليدياً، فيما يشكل الحديث عن الهوية العلمانية للدولة السورية مخرجاً للحَرَج الناتج من الصراع الإسلامي الداخلي والتملّص من محاولة إيران توظيف التدخل الروسي في هذا السياق.
المشكلة أن واقع الأقليات في المنطقة مُطبَق عليه كلياً بحيث يصعب على المعارضة السورية والقوى الداعمة لها تأمين رأس جسر في تلك الطوائف لكي يتسنى إضفاء طابع تشاركي في مواجهة نظام الأسد، إذ يقتصر الأمر على المستوى النخبوي في الغالب. هذه الإمكانية كانت مُتاحة في الأيام الأولى للثورة قبل أن يقودها الأسد نحو العنف المفرط. إيران ورثت نظام الاستبداد العربي في الاشتغال على ملف الأقليات، وهذا يعكس سياسة هادفة تمت ممارستها منذ زمن وامتلكت الخلفية العقائدية التي خوّلتها العمل بالمفهوم الاستباقي تحضيراً للمخاض الذي تعيشه المنطقة اليوم.
ومَن يتتبع الحركة السياسية في المنطقة منذ 1990 يلاحظ المساحة الإيديولوجية التي ملأتها إيران وحدها من دون أن ينافسها أحد، ما خلّف فراغات في كل الشرائح والمكونات.
نموذج الطائفة الشيعية في لبنان أثبت قدرته على احتواء أي اختراق للموقف المُوحّد الذي يعمل باتجاه واحد، وهذا ما أهّله للعب أدوار تفوق المجالات المحلية. وفي سورية، نموذج الطائفة العلوية مشابه تماماً، في ما إذا استمر على حاله بعد تصفية الأسد لكل الاحتمالات البديلة. وفي الطائفة الدرزية يعمل الأسد وجماعة إيران على تثبيت الأحادية والتمسك بالتموضع الدرزي إلى جانب النظام، بخاصة في ظل غياب القيادات السياسية التي حاولت الظهور مع بدايات الثورة وتبوؤ المشهد من قبل المرجعيات التي تدور في فلك النظام، حيث في هذا السياق أتى اغتيال الشيخ وحيد البلعوس. أما المسيحيون في سورية فيُدخلهم النظام في حلقة التمثيل المشرقي المطوّب لحساب حلفائه من المسيحيين اللبنانيين الذين اختُبر ولاؤهم طيلة الفترة السابقة، وبالتالي فإنهم يفتقدون الصلات الممكنة مع المعارضة، ما أخذ المعارضة إلى اللون الواحد، لا العكس.
إذ ذاك يصبح من الصعب على المعارضة الداخلية تقديم ضمانة فعلية أو تشكيل قوى حليفة لها في تلك الطوائف، أضف أن تجربة بعض القوى الإقليمية الداعمة للثورة كقطر وتركيا ليست مشجعة بحكم النتائج التي ظهرت في ليبيا ومصر، بحيث يصبح مبرراً لروسيا التحدث عن ضمان الأقليات وحماية النظام التعددي في سورية!
هنا يقع الإلتباس، فالاستناد إلى هذا المقترب كمُسلّمة للدخول في تسوية تَطمئِن لها فئات الشعب السوري فيه جزء من الصحة، إذا ما افترضنا أن ما كان قائماً هو اضطهاد الأكثرية للأقلية. لكن الأمر ليس كذلك بالطبع. وإذا ما تحدثنا عن حسن نية لدى القوى الدولية في تقديم تلك الضمانات، فمفتاحها يكون عبر طمأنة الأكثرية وليس عبر كسر إرادتها من خلال الأسد، كرمز للعنف والفتنة.
بهاء أبو كروم
صحيفة الحياة اللندنية