في حين أن الإدارات الأميركية السابقة والحالية فشلت في تقديم حجج مقنعة وتفسيرات قانونية للإبقاء على القوات الأميركية والقتال في سورية، يبدو أن قرار واشنطن بالبقاء في البلد تحدده دوافع جيوستراتيجية بحتة.
* * *
بعد أن قصف الجيش الأميركي مقاتلي الميليشيات الموالية لإيران في سورية ردًا على هجوم بطائرة من دون طيار على القاعدة الأميركية في التنف وهجوم صاروخي على قواعد في دير الزور في آب (أغسطس)، أثارت حرب أميركا “المنسية” إلى حد كبير في سورية أسئلة أعرب عنها محللو السياسة العالمية ونقاد وسائل الإعلام، حول الغرض من الإبقاء على وجود القوات الأميركية في البلد.
ولا يقتصر الأمر على أن التبرير القانوني للوجود الأميركي في سورية مشكوك فيه منذ البداية، وإنما يمكن أن يؤدي الخطر المتزايد من أن الهجمات المستقبلية إلى وقوع خسائر غير ضرورية في صفوف المدنيين أو العسكريين الأميركيين كان من الممكن تجنبها.
في البداية، تم إرسال قوات أميركية إلى سورية في العام 2015 كجزء من حملة القتال ضد تنظيم داعش، ولتقديم التدريب والمشورة للأكراد و”قوات سورية الديمقراطية” (التي أصبح دورها أساسيًا في تحرير أجزاء كبيرة من الأراضي السورية من داعش).
في حين أن الهدف الأساسي للوجود الأميركي في سورية كان مواجهة الخلافة المعلنة ذاتيًا، فقد جعلت هزيمة داعش من الوجود العسكري الأميركي المتبقي موضوعا جدليا وموضع استنطاق من الناحية القانونية في الداخل والخارج على حد سواء.
ومع ذلك، بعد أن سحبت إدارة ترامب القوات الأميركية المتبقية وأعادت نشرها في أماكن أخرى في العام 2019، أعرب العديد من المسؤولين والنقاد والإعلاميين عن قلقهم من أنه من خلال التخلي عن الأكراد، سوف تتشوه صورة الولايات المتحدة كحليف جدير بالثقة، وسيتم ترك الأراضي الاستراتيجية للنظام السوري وروسيا وإيران. واليوم، ما يزال هناك حوالي 900 جندي أميركي متمركزين في المنطقة المعروفة باسم “المنطقة الأمنية لشرق سورية”.
تبرير بالغ الإشكالية للوجود العسكري الأميركي في سورية
بعد هزيمة داعش، وسعت واشنطن عملياتها في البلد لتشمل أهدافا أخرى، بما فيها الميليشيات الموالية لإيران مثل “كتائب حزب الله” و”كتائب سيد الشهداء”، فضلاً عن قوات الحكومة السورية والمرتزقة الروس، من دون وجود مبرر قانوني أو موافقة من الكونغرس.
في الواقع، وجدت الولايات المتحدة نفسها في حلقة مفرغة من الضربات “المتبادلة”، من دون أي هدف عسكري أو سياسي ملموس. وعلى الرغم من أن الإدارة الأميركية راجعت سياستها بشأن سورية العام الماضي، وحددت لها أربعة أهداف رئيسية تشمل: مواصلة الضغط على داعش من خلال الإبقاء على وجود عسكري مستدام في شرق سورية؛ ودعم اتفاقات وقف إطلاق النار المحلية؛ والمساعدة على تقديم المساعدات الإنسانية وتعزيز حقوق الإنسان، مع الضغط من أجل تطبيق المساءلة واحترام القانون الدولي (الذي تنتهكه واشنطن نفسها من خلال وجودها القابل للاستنطاق في البلد)؛ ودعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، فإن العديد من المحللين يشككون في سياسة الولايات المتحدة بشأن سورية، ويرون أنها ما تزال غامضة ومشوشة.
حتى الآن، بررت إدارة بايدن الإجراءات الأميركية بذريعة الدفاع عن النفس ضد داعش، ووسعت نطاقها لتشمل جماعات أخرى تدعي واشنطن أنها تمثل تهديدًا مباشرًا لعملياتها ضد داعش. وتم الجمع بين هذا الادعاء الهش مُسبقًا وبين حجة أخرى مشكوك فيها بشدة يطلق عليها اسم نظرية “غير قادر وغير راغب” التي وُضعت خلال ولاية إدارة أوباما واستأنفتها إدارة بايدن. ويشرح بريدجمان وبريانا روزين، في مقالتهما بعنوان “ما تزال في حالة حرب: الولايات المتحدة في سورية”، التي نشرت في منتدى “الأمن العادل” Just Security على الإنترنت، أنه وفقًا لهذه النظرية، يُنظر إلى سورية على أنها “غير قادرة على، وغير راغبة” في مواجهة التهديد الذي يشكله تنظيما داعش والقاعدة. ووفقًا لهذه النظرية، فإنه “يمكن للدولة الضحية (الولايات المتحدة في هذه الحالة، نيابة عن نفسها وعن العراق) استخدام القوة للدفاع عن النفس ضد الجهات الفاعلة غير الحكومية الموجودة في دولة مختلفة ثالثة، (سورية)، من دون موافقة تلك الدولة”. ولم يُحجم ترامب عن استخدام القوة كجزء من “حملة الضغط الأقصى” التي شنها ضد إيران ولمواجهة النفوذ الإيراني في سورية، واصفًا ذلك بأنه إجراء يقصد إلى مواجهة التهديدات المباشرة للولايات المتحدة. وفي استراتيجيته، حدّ بايدن من استخدام التهديد المباشر لصالح “التخطيط المستمر” للهجمات المستقبلية، مما يجعل العمليات الأميركية الحالية أكثر إشكالية.
وفقًا لبنيامين فريدمان، مدير السياسات في “أولويات الدفاع” والمُحاضر المساعد في كلية إليوت للشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن، فإنه “لا يوجد أي أساس قانوني صالح لوضع قوات أميركية في سورية”. وحتى على الرغم من أن بايدن يستخدم سلطته المتأصلة كرئيس لتبرير وجود القوات الأميركية وتوجيه الضربات الجوية الأميركية ضد القوات التي تهاجم القوات الأميركية، إلا أن هذا لا يمكن أن يبرر احتلالاً طويل الأمد -“إنه ببساطة غير قانوني”، كما قال فريدمان لمجلة “تقرير واشنطن”. وأضاف: “نحن الآن نهاجم القوات المرتبطة بإيران لحماية قوات موجودة لتنفيذ مهمة ضد داعش أنجزناها مسبقًا إلى أقصى حد ممكن. وبهذا، فإننا نخاطر بالتصعيد من أجل لا شيء”.
الدوافع الجيواستراتيجية للبقاء
في حين أن الإدارات السابقة والحالية فشلت في تقديم حجج مقنعة وتفسيرات قانونية للإبقاء على القوات الأميركية والقتال في سورية، يبدو أن قرار واشنطن بالبقاء في البلد تحدده دوافع جيواستراتيجية بحتة.
يعتقد العديد من المراقبين، بمن فيهم كارين لوكفيلد، المراسلة البارزة في الشرق الأوسط لوسائل الإعلام الألمانية، أن أحد أسباب بقاء القوات الأميركية في سورية هو أن إسرائيل تريد بقاءها هناك. وأشارت لوكفيلد إلى أن الوجود المادي “يضمن سيطرة القيادة المركزية الأميركية وإدامة مراقبتها لـ21 دولة في الشرق الأوسط ووسط وجنوب شرق آسيا، بما في ذلك الطرق الاستراتيجية البرية والممرات المائية”. وقالت لوكفيلد لـ”تقرير واشنطن” إنه قد يكون هناك “جانب آخر لهذه السياسة الأميركية -هو تجنب إلحاق المزيد من الضرر بسمعة الولايات المتحدة بعد الانسحاب الكارثي من أفغانستان”.
إضافة إلى ذلك، يشير العديد من المحللين إلى أن الجولة الأخيرة من الهجمات التي شُنت على أهداف أميركية في سورية تأتي نتيجة للغارات الجوية التي تشنها إسرائيل في أجزاء أخرى من سورية وانتقامًا لها. وثمة تقارير، منها على سبيل المثال، ما نُشر في صحيفة “وول ستريت جورنال” في 16 حزيران (يونيو) 2022، تدّعي أن الحكومتين، الإسرائيلية والأميركية، تعاونتا بشكل وثيق ونسقتا معًا الضربات الإسرائيلية ضد أهداف في سورية. ومع ذلك، ثمة مخاوف وانتقادات متزايدة بشأن تعريض القوات الأميركية لمخاطر غير ضرورية من أجل مصالح دولة ثالثة، وهو ما اعتبره العديد من المحللين نهجًا غير مسؤول بطريقة مفرطة.
إضافة إلى ذلك، يجب على واشنطن ألا تخاطر بتقويض الاختتام الناجح للمفاوضات النووية مع إيران، بغض النظر عن مدى معارضة حلفائها في المنطقة، وخاصة إسرائيل، للاتفاق. وبغض النظر عن مدى عدم اتسام الاتفاق بالكمال، فإنه سيشكل الخطوة الأولى نحو خفض تصعيد التوترات في المنطقة. ومع ذلك، يعتقد فريدمان أنه نظرًا لأن الأهداف الأميركية كانت قوات مدعومة من إيران وليست قوات إيرانية، فإن إحياء الاتفاق لا يعتمد على ما يحدث في أي من سورية أو العراق. وأوضح بالقول: “ولكن، إذا تصاعد الصراع بطريقة أو بأخرى، فإن ذلك قد يعرّض الاتفاق للخطر بالتأكيد”.
وإلى جانب مواجهة إيران و”حزب الله” في سورية، تعتقد لوكفيلد أن الوجود الأميركي في البلد يرتبط ارتباطًا وثيقًا أيضًا بردع روسيا وجيشها، اللذين ساعدا بشار الأسد على استعادة السلطة والفوز فعليًا في الحرب الأهلية. وهناك قلق من أن بعض حلفاء الولايات المتحدة الحاليين في المنطقة وداخل سورية قد يتحالفون مع روسيا، من أجل تأمين مستقبلهم، بمجرد مغادرة الأميركيين.
وأخيرًا، حسب وجهة نظر لوكفيلد، تتواجد الولايات المتحدة في سورية لمنع دمشق من استعادة “’سورية المفيدة‘، أو بتعبير أدق الجزء الشمالي الشرقي من البلاد، حيث توجد الموارد المهمة، مثل النفط والغاز والقمح والقطن والمياه”.
الانسحاب وشيك
ومع ذلك، يعتقد جوشوا لانديس، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في قسم الدراسات الدولية ودراسات المناطق في جامعة أوكلاهوما، أن الولايات المتحدة ستضطر في نهاية المطاف إلى سحب قواتها من سورية. وقال لـ”تقرير واشنطن”: “الدول المجاورة تعارض احتلال الولايات المتحدة للأراضي السورية، بينما يصر المجتمع الدولي على سورية ذات سيادة ومتكاملة”. وشدد على أنه “من المستحيل على الولايات المتحدة إنشاء دولة مستقلة يقودها الأكراد في شمال سورية لأن الأكراد، الذين يبلغ عددهم حوالي مليوني نسمة، قليلون جدًا من حيث العدد وأضعف من أن يتمكنوا من الدفاع عن دولة في شمال سورية”. وإضافة إلى ذلك، يعتقد لانديس أنه لا يوجد احتمال لأن تتمكن الولايات المتحدة من استخدام المنطقة للضغط من أجل استبدال قيادة الأسد في دمشق، كما كان يُعتقد في الأصل. ولهذا السبب، كما يشير، فإن “الولايات المتحدة ستضر بعملائها، “وحدات حماية الشعب” (التي تتكون في معظمها من الأكراد)، و”قوات سورية الديمقراطية” (التحالف المكون في المقام الأول من المقاتلين الأكراد والعرب والآشوريين)، إذا لم يتم تهيئهم لإجراء ترتيبات مع دمشق تحضيرًا لليوم الذي تنسحب فيه القوات الأميركية من سورية، حتى لو كان ذلك بعد 5 أو 10 سنوات في المستقبل”.
لكنه يحذر من أن “الولايات المتحدة يجب ألا تكرر تجربة أفغانستان في سورية، بحيث تنسحب من دون توفير الأمان لأولئك الذين عملوا لصالحها، الذين سيتم سجنهم أو إعدامهم بتهمة الخيانة، عندما تنسحب الولايات المتحدة”.
لكن إطالة أمد انخراط الولايات المتحدة في سورية، من وجهة نظر فريدمان، يمكن أن يكون “خطأ فظيعًا -ليس مكلفًا بشكل خاص ولكنه محفوف بالمخاطر للغاية”. وهي مجرد مسألة وقت فقط قبل أن يؤدي أحد هذه الحوادث والهجمات المتكررة إلى وقوع إصابات كبيرة في صفوف القوات الأميركية والأفراد والمدنيين، من دون سبب وجيه.
الغد