بعد حوالي شهر من إعلان الحرب على أوكرانيا، سُجلت الهزيمة الروسية الأولى، وكانت في بداية إبريل/نيسان الماضي، حينما جرى الانسحاب العسكري الروسي من محيط مدينة كييف وتشيرنيهيف، وفق مبرر “إعادة التجمع ثم الاندفاع مرة أخرى للهجوم”، حسب التصريحات الرسمية الروسية.
وجرى في حينه نقل المعركة في اتجاه أقاليم دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وخاركيف، وكانت الحصيلة خسائر روسية كبيرة في الأرواح والمعدات، وفشل الهدف الأول للحرب في دخول العاصمة الأوكرانية.
الهزيمة الثانية كانت خسارة خاركيف وأجزاء من خيرسون ودونيتسك ولوغانسك مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، إثر شنّ الجيش الأوكراني هجوماً مضاداً واسعاً جعل الروس يتقهقرون، ويعترفون بخسارة مساحات كبيرة من الأرض.
وهنا تبيّن أن ميزان القوى العسكري على الأرض بدأ يختل لصالح أوكرانيا، ولذلك أعلن حينها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التعبئة العامة من أجل زج 300 ألف جندي في الحرب. وسارع إلى ضم أربع مقاطعات أوكرانية، خيرسون وزابوريجيا ودونيتسك ولوغانسك.
سحب القوات الروسية في خيرسون إلى الضفة الشرقية من نهر دنيبر، خسارة لموسكو
أما الهزيمة الثالثة فتتمثل في إعلان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في التاسع من الشهر الحالي، الموافقة على سحب القوات الروسية في خيرسون إلى الضفة الشرقية من نهر دنيبر، بناء على اقتراح قائد القوات الروسية في أوكرانيا الجنرال سيرغي سوروفكين، وذلك بعد أقل من شهر على تعيينه في هذا المنصب، من أجل القيام بهجوم كبير لإعادة احتلال المناطق التي حررها الأوكرانيون مطلع سبتمبر.
محدودية خيارات موسكو
جرى تقديم سوروفكين حين تولى المنصب في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، على أنه يعمل وفق سياسة “الأرض المحروقة” في الحروب، التي سبق له أن جربها في كل من الشيشان وسورية، وأعطت نتائج مهمة أدت إلى إنهاء الثورة الشيشانية على الوجود الروسي، وإخراج مقاتلي الفصائل العسكرية من حلب وتدمير قسط منها بالقصف الجوي.
وكان أن بدأ يومه الأول في المهمة الأوكرانية بحملة قصف واسع، صاروخي وجوي وعن طريق الطائرات المسيّرة، شمل المناطق الواقعة تحت سيطرة الطرف الأوكراني، واستمر في القصف الذي استهدف البنى التحتية، خصوصاً محطات توليد الكهرباء والسكك الحديدية.
وعلى مدار أسبوعين، سيطرت المسيّرات الإيرانية الصنع على الأجواء في أوكرانيا، ونشرت حالة من الفوضى والخوف في كييف، بسبب الأضرار التي أحدثتها، ونظراً لصعوبة التصدي لها.
وقبل أيام من إعلان الانسحاب إلى الضفة الشرقية من نهر دنيبر، أعلنت موسكو انتهاء التحضيرات الخاصة بالتعبئة العامة، من أجل تعويض الخسائر التي تعرضت لها خلال معارك كييف وخاركيف وخيرسون.
وقال مسؤولون عسكريون روس إن 80 ألفاً من هؤلاء التحقوا بجبهات القتال في بدايات الشهر الحالي، وكان التفاؤل بادياً في تصريحات المسؤولين الروس، الذين بدوا شبه واثقين من أن زج الاحتياط سوف يحدث فارقاً سريعاً يؤثر على سير المعارك. ولكن مفاجأة الانسحاب أسقطت هذه الحسابات.
فشل زج الاحتياط
في الرابع من الشهر الحالي قام الروس بهجوم مضاد في منطقة خيرسون، وفي المقابل نفذ الانفصاليون الموالون لروسيا هجوماً في دونيتسك سيطروا فيه على ثلاثة مواقع.
من جانبها، أعلنت القوات الأوكرانية استعادة 29 قرية في خيرسون. وبعد أيام من ذلك، جاء إعلان الانسحاب الروسي، وهذا دليل على أن الهجوم المضاد الذي قامت به القوات الروسية لم يحقق نتائج، بل على العكس فقد خسرت مساحات جديدة.
بررت القوات الروسية انسحابها من الضفة الغربية لنهر دنيبر بعدة اعتبارات. الأول هو صعوبة إرسال الدعم اللوجستي إلى القوات الموجودة هناك. والثاني هو ضمان سلامة الجنود الروس في تلك المناطق. والثالث هو المخاطر التي تتهدد سكان تلك المنطقة.
وسخر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من الأمر بقوله “لا أحد ينسحب من مكان إلا تحت الضغط”. وهذا يعني أن الاستراتيجية الهجومية للجيش الأوكراني تحقق نتائج مهمة منذ بداية الخريف، ومن محطة لأخرى تنذر بإلحاق هزيمة ساحقة بالجيش الروسي، في ظل الأرقام الكارثية التي قدّرها رئيس هيئة الأركان الأميركية الجنرال مارك ميلي بأنها تجاوزت 100 ألف بين قتيل وجريح.
انسحاب القوات الروسية إلى الضفة الشرقية لنهر دنيبر، يعني فشل عملية زج الاحتياطي في هجوم واسع
ومن الناحية الاستراتيجية، قرأ خبراء متخصصون انسحاب القوات الروسية إلى الضفة الشرقية لنهر دنيبر، بأنه يعني أولاً فشل عملية زج الاحتياطي في هجوم واسع، وبالتالي خسارة روسيا ورقة كانت يمكن أن تكون أربح لو أنها استخدمتها على نحو دفاعي.
والمعنى الثاني هو أن القوات الروسية باتت رسمياً في حالة انسحاب ووضعية دفاعية، ويتوقف صمودها داخل الأراضي الأوكرانية على مقدرتها في صد الهجمات الأوكرانية، التي تعتمد على زخم الاندفاع الكبير منذ بداية سبتمبر.
وترى أوساط إعلامية أن الانسحاب إلى الضفة الشرقية من نهر دنيبر، هي محاولة روسية للالتفاف على الاعتراف بالهزيمة من جهة، ومن جهة ثانية رسالة موجّهة للطرف الأوكراني والجهات الدولية، التي تدعمه، بأن موسكو مستعدة لوقف الحرب والانسحاب إلى مناطق أخرى، وقامت بهذه الخطوة وهي تنتظر ردات الفعل عليها.
مع العلم أن الولايات المتحدة وأوروبا ليستا بعيدتين عن هذا التفكير، وتبحثان عن مخرج ملائم لوقف الحرب التي باتت ذات كلفة بشرية واقتصادية عالية على الجميع.
وسبق أن أعلنت الولايات المتحدة وأوروبا أن دعمهما العسكري لأوكرانيا سوف يستمر حتى النصر، وعلى الأوكرانيين أن يحددوا طبيعة وحدود هذا النصر الذي قد لا يشمل، بالضرورة تحرير كامل الأراضي التي احتلتها روسيا منذ عام 2014.
ويبدو هنا أن هذا الرأي على قدر من المرونة، ويحتمل تسوية تعود فيها الأوضاع إلى ما كانت عليه، قبل إعلان روسيا الحرب على أوكرانيا في فبراير/شباط الماضي.
أوكرانيا في موقع القوة
ومن الواضح أن أوكرانيا باتت تتحدث من موقع قوة بفضل الإنجازات العسكرية المهمة التي حققتها على الأرض منذ بداية الخريف، ولديها توجّه لإكمال الهجمات المضادة، وتحرير ما بقي من أراض في غضون الشتاء المقبل عندما يلعب الطقس دوراً مساعداً لأوكرانيا، التي تقاتل على أرضها في ظل الدعم العسكري المتواصل، وتلقيها أسلحة متطورة أميركية وأوروبية.
وبدت أوكرانيا في وضع أفضل أخيراً من خلال عاملين. الأول هو وصول أسلحة جديدة متطورة، وكمية كبيرة من الذخائر الأميركية والأوروبية، وهي تكفي لمعارك الأشهر المقبلة، بالإضافة إلى امتصاص الخطر الذي شكّلته المسيّرات الإيرانيةخلال النصف الثاني من الشهر الماضي.
ومن غير الواضح حتى الآن السبب في تراجع ظهور هذه المسيّرات في أجواء أوكرانيا، وهناك احتمال أن تكون موسكو قد استنفدت المخزون الذي تملكه منها، أو أن كييف وجدت مضادات جوية فعّالة، والاحتمال الثالث هو أن تكون طهران قد رضخت للضغوط الغربية، وتوقفت عن تزويد موسكو بهذا السلاح الفعال والرخيص التكلفة. وإذا كان هذا الأمر وارداً، فهو يعني أن رهان طهران على انتصار روسي في الحرب قد بدأ يتراجع، وبذلك لا تريد التورط حتى لا تصبح شريكة في الخسارة.
يستمر الدعم الأميركي لأوكرانيا بالوتيرة ذاتها التي بدأ بها
وهناك عامل آخر يشد من عزيمة أوكرانيا، وهو استمرار الدعم الأميركي بالوتيرة ذاتها التي بدأ بها، ذلك أن نتائج الانتخابات النصفية الأميركية، لم تمنح الحزب الجمهوري أكثرية مطلقة، تسمح له بتكبيل يدي الرئيس جو بايدن، وإجباره على مراجعة الدعم لأوكرانيا. وهي مسألة كانت مطروحة بقوة من قبل الحزب الجمهوري، الذي جاهر بأنه لا يمكن الاستمرار في تلبية كل ما تطلبه أوكرانيا.
وكان البيت الأبيض يتحسب لهذه المسألة منذ فترة، الأمر الذي شجع على فتح خطوط حوار مباشرة مع روسيا خلال الشهرين الأخيرين. الأول من خلال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، الذي تواصل مع نظيره الروسي سيرغي شويغو لأول مرة منذ بدء الحرب.
والثاني عن طريق مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان، الذي أجرى محادثات سرية في الأشهر الأخيرة مع نظيره، سكرتير مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف، ومساعد الرئيس الروسي يوري أوشاكوف. وحاولت واشنطن من خلال بدء الاتصالات مع موسكو وضع إطار للحرب، يمنعها أن تذهب إلى مستوى لا يمكن التحكّم بها.
ووضعت الإدارة الأميركية التحركات التي قامت بها على أنها محاولة لإنقاذ روسيا من الهزيمة، وليس مساعدة أوكرانيا فقط، لأن استمرار خسارة موسكو يشكّل نوعاً من الإذلال لها، الأمر الذي قد تترتب عليه تداعيات معنوية وسياسية كبيرة، وبالتالي فمن الأفضل للجميع عدم إهانة روسيا.
وهذا ما نادى به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بداية الحرب، ولم يلق استجابة من أميركا، التي ترى أن اللحظة باتت مواتية بعد أن اقتربت روسيا من خسارة الحرب، واختلف الوضع، فهي كانت حينذاك في لحظة هجوم، في حين أنها اليوم في حالة تراجع.
زيارة زيلينسكي إلى خيرسون قبل أسبوع، منعطف استراتيجي في مسار الحرب. ويعني أن العودة إلى الوراء باتت مستحيلة، وما على روسيا إلا أن توفر على نفسها الخسائر البشرية والمادية، وتعلن عن وقف الحرب وسحب قواتها.
العربي الجديد