شكّل انفتاح الصين على العالم، وخصوصا خلال العقدين الأخيرين، عبر مبادرة أطلقت عليها “الحزام والطريق”، دخولا واسعا ومتعدّدا إلى أسواق العالم، ومنها الأسواق الغربية، مرتكزةً على فلسفة “كسب قلوب المستهلكين وعقولهم”، فيما تراجعت، وما زالت، الولايات المتحدة من أسواق مهمة في الشرق الأوسط وأفريقيا، وحتى الأوروبية، لكن هذا لم يكن مطلقاً على حساب قوة الشركات الغربية، الأميركية خصوصا، ومتانتها، بل بسبب تركيز واشنطن على مجالات رئيسية، في مقدمتها توريدات المعدات العسكرية والأسلحة، إضافة إلى قطاعات الطاقة.
توغّل الصين متعدّد الأوجه والنشاطات جعلها في حالة من المنافسة المتزايدة في جميع المجالات، وخصوصا مع الولايات المتحدة، حققت فيها الصين مكاسب وانتصارات اقتصادية وسياسية واضحة. وقد وضع الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، إصبعه على هذا الموضوع، ليدخل بلاده والعالم في مواجهة مع الصين، بدت تجارية تحت عنوان “انتهاك حقوق الملكية الفكرية الخاصة بالتكنولوجيا”، واختلال الميزان التجاري بين الدولتين، إضافة إلى اتهامها بالتدخل في المنطقة الواقعة في بحر الصين، لكنها في الحقيقة كانت تعني كل شيء بالنسبة إلى بكين. وقد فهمت إجراءت ترامب على أنها تهدف إلى إخضاع الصين لهيمنة الولايات المتحدة، فقرّرت خوض المواجهة لإجبار واشنطن على خوض حرب باردة، يكون فيها إجبار واشنطن على التخلي عن هيمنتها على غرب المحيط الهادئ.
لقد رافق صعود الصين الملحوظ اقتصادياً وصناعياً وإلكترونياً تقاربٌ ملحوظٌ ومتصاعدٌ مع روسيا، التي إختارت التنسيق الاستراتيجي مع بكين، ليشمل مواضيع حساسة إضافةً إلى المجالين، التجاري والاقتصادي، كالتسلح العسكري والتنسيق السياسي والدبلوماسي دولياً، وبحوث تطوير في مجال الفضاء والصناعات على اختلاف توجهاتها، وهو ما أثار حفيظة المنظومة الغربية، إضافةً إلى دول إقليمية، وقرّرت الولايات المتحدة الحد من الصعود الصيني المتسارع؛ لأنها ترى بوضوح أنه سيكون على حساب الهبوط الأميركي.
أقلق الموقف الصيني “غير المعارض” للحرب الروسية على أوكرانيا الولايات المتحدة، فحرّكت ملف تايوان
ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض، استمرّ الرئيس الأميركي، بايدن، باتباع سياسة متشدّدة تجاه الصين. وقد أصبحت المنافسة بين البلدين أكثر تشدّدًا عما كانت عليه في عهد سلفه ترامب، حتى وقوع الحرب الروسية على أوكرانيا من جهة وتنشيط التحالفات الأميركية في كل من المحيطين، الهادئ والأطلسي، من جهة أخرى. لقد فوجئوا بالارتقاء السريع للمجموعة الرباعية؛ التي تتكون من أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة (كواد)، وظهور شراكة أمنية جديدة بين أستراليا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، والمعروفة باسم AUKUS (أوكوس)، وتبنّي اليابان سياسة دفاعية جديدة، وتوسيع الإنفاق الدفاعي، وبدأت في تبني الحاجة إلى المساعدة في الدفاع عن تايوان.
كان توقيع معاهدة الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا “بلا أي حدود” جزءا من الرد الصيني عن كل هذه التحرّكات. وقد أقلق الموقف الصيني “غير المعارض” للحرب الروسية على أوكرانيا الولايات المتحدة على وجه الخصوص، فحرّكت ملف تايوان عبر زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، مع خمسة أعضاء ديمقراطيين في مجلس النواب، إلى تايوان في 2 أغسطس/ آب 2022، قابلها التهديد الصيني على لسان رئيس الدولة والحزب الشيوعي الصيني، شي جين بينغ، بأن الصين لا يمكن أن تتخلّى عن موضوع ضم تايوان إلى الساحل، حتى باستخدام القوة، وقد كرّر مفردة “القوة” في خطاب انتخابه أميناً عاماً للحزب الشيوعي الحاكم لفترة ثالثة 60 مرة، في حين أكد الرئيس بايدن أن الدفاع عن تايوان هو “الالتزام الذي قطعناه على أنفسنا”.
مع استمرار الحرب في أوكرانيا واحتمالات توسعها، وربما تطوّر أدوات الصراع فيها بين حلف الناتو (بقيادة الولايات المتحدة) وروسيا، ومع ثبات القيادات الحالية في بكين وواشنطن عبر الانتخابات النصفية لتجديد الثقة للرئيس الأميركي وإعادة انتخاب الرئيس الصيني، تيقّنت واشنطن أولاً، وإلى حدٍ ما بكّين أيضاً، أنهما يحتاجان لفهم واضح ودقيق للحدود الحمراء بينهما، لمنع تحوّل المنافسة إلى صراع مسلح، ويبدو أن أول هذه الخطوط بالنسبة إليهما قضية تايوان. ثم تأتي مسألة تبنّي منافسة استراتيجية واضحة المعاني، ولا يساء فهمها من الطرفين، لكي تقلل من أخطار أي حربٍ غير متوقعة بسبب سوء الفهم.
يبدو أن على واشنطن فهم موضوع تايوان جيداً وحجم أهميتها بالنسبة للصين، ولعل ظهور الرئيس الصيني شي جين بينغ، في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، مرتدياً بزّة عسكرية لأول مرة، ودعوته إلى تعزيز قدرات جيش بلاده والاستعداد للقتال، معللاً ذلك بتصاعد وتسارع وتيرة التغيرات الكبيرة التي لم يشهدها العالم منذ قرن، وأن أمن الصين يواجه مزيدا من عدم الاستقرار وعدم اليقين. وتريد الصين أن توصل رسائلها إلى الولايات المتحدة، التي تفضي إلى أن نجاحها في إعادة تايوان إلى حاضنتها الأم سيقوّض مصداقية واشنطن بشكل هائل مع حلفائها الآسيويين، وحتى الأوروبيين، وسيضع حلفاءها الإقليميين، كأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ودول أخرى، أمام خيارات صعبة جداً.
الهاجس الأميركي يرتبط، بدرجة كبيرة، بموضوع الحرب في أوكرانيا، حيث أكّدت الصين قلقها من استمرار هذه الحرب واحتمالات تطورها
وفي اجتماع الرئيسين الأميركي والصيني على هامش قمة العشرين في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري في بالي، كان الهاجس الأميركي يرتبط، بدرجة كبيرة، بموضوع الحرب في أوكرانيا، حيث أكّدت الصين قلقها من استمرار هذه الحرب واحتمالات تطورها، واقترحت إجراء حوار شامل بين حلف شمال الأطلسي (ناتو) والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة، وروسيا من جهة أخرى، للوصول إلى حلول مرضية ولمنع استخدام الأسلحة النووية أو التلويح بها في النزاع. فيما قالت المتحدّثة باسم البيت الأبيض، كارين جان بيار، إن الاجتماع بين بايدن وشي جين بينغ سعى إلى تبنّي “إدارة مسؤولة” للمنافسة بين الصين والولايات المتحدة، وخصوصا في مسائل مثل المناخ والصحة ومكافحة تهريب المخدّرات.
المفيد من القمة الصينية الأميركية، بحسب مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي جاك سوليفان، أن “الرئيس يرى أن هناك منافسة شرسة بين الولايات المتحدة والصين، لكنها يجب ألا تتحوّل إلى صراع أو مواجهة.. تحتاج إلى أن تدار بمسؤولية.. وهناك أيضاً مجالات يمكننا العمل فيها معاً”. ورغم حالة النشوة التي ظهر بها الرئيسان، إلا أن كليهما لم يعترفا بالطبيعة الكاملة للمنافسة، وإن طرحا بعض الخطوط التي وضعت ضمن ما سمّاه الرئيس الأميركي “الخطوط الحمراء”، كالطلب من واشنطن ألا تمثل تحدّيا للنظام السياسي الصيني أو تعطّل تنمية الصين، أو تتدخل في قضايا سيادة الصين المتعلقة بتايوان وهونغ كونغ والتيبت وشينجيانغ. فيما يبقى الخط الأحمر المشترك عالقاً، وربما سيكون سبباً لانهيار النظام العالمي، وهو ملف تايوان الذي هدّد الرئيس الصيني، وعلى مسامع نظيره الأميركي، باستخدام القوة لمعالجته.
العربي الجديد