سيتعين على مجموعة أوبك+ عندما تعود للاجتماع في ديسمبر المقبل، أن تأخذ بعين الاعتبار حجم الإنتاج الفنزويلي الجديد من النفط، وما إذا كان سوف يترك تأثيرا على الأسواق والأسعار. وإذا قررت المجموعة زيادة الخفض، أو تأكيده، فإن ضجيجا إضافيا سيندلع في واشنطن ضد السعودية. وبينما تتأهب الرياض له، فإنها قد تتعمد تحويله إلى مكسب لبناء إطار استراتيجي يُزيد في ابتعادها عن واشنطن.
لندن – يقول المراقبون إن الاتفاق الذي تم توقيعه في مكسيكو بين سلطة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو التي ترأس وفدها رئيس الجمعية الوطنية خورجي رودريغز والمعارضة التي ترأس وفدها خيراردو بلايد، كان ثمرة أولى لتهديدات الرئيس الأميركي جو بايدن بإعادة تقييم علاقات بلاده مع السعودية، القائد الفعلي لمجموعة أوبك+.
فبعد سنوات من تعثر الحوار بين السلطة والمعارضة في فنزويلا، أصبح الاتفاق بينهما ممكنا، وذلك بعد جرعة تنشيط أميركية، سمحت بإنشاء صندوق للإنفاق على مشروعات تنموية إنسانية تشمل التعليم والصحة والأمن الغذائي والاستجابة للفيضانات وبرامج الكهرباء.
وتبلغ قيمة الصندوق الأولية أكثر من ثلاثة مليارات دولار من الأصول الفنزويلية المجمدة، ويخضع لإشراف الأمم المتحدة.
إعادة تقييم واشنطن لعلاقاتها مع الرياض غير مرتبطة بالنفط، وقد تشمل تراجعها عن التزاماتها الأمنية حيالها
وسارعت وزارة الخزانة الأميركية، قبل أن يجف الحبر على ورق الاتفاق، إلى الإعلان عن منح “رخصة موسعة” تسمح لشركة “شيفرون” باستيراد النفط من مشروعاتها في فنزويلا وتحويله إلى المصافي في الولايات المتحدة.
ومع تقدم المفاوضات التي تتولى المكسيك الوساطة فيها، فمن غير المستبعد أن ينتهي الأمر بإعلان مصالحة شاملة من شأنه أن يسمح بعودة المعارضين إلى بعض مناصبهم السابقة، ويمهد الطريق لإجراء انتخابات رئاسية جديدة في العام 2024، ويرفع باقي القيود والعقوبات على صادرات النفط الفنزويلية، كما يرفع التجميد عن أصولها في الخارج.
وعلى الرغم من أن إنتاج فنزويلا الحالي البالغ نحو 700 ألف برميل من النفط يوميا، لا يترك تأثيرا مباشرا على توازنات السوق، إلا أن الرخصة الموسعة التي حصلت عليها شيفرون سرعان ما سوف ترفع طاقة الإنتاج إلى نحو مليون ونصف المليون برميل يوميا. وحالما يجري رفع باقي القيود عن مشاركة شركات أخرى، فإن إنتاج النفط يمكن أن يتضاعف إلى ثلاثة ملايين برميل يوميا بحلول منتصف العام المقبل، وهو المعدل السابق للإنتاج قبل بدء العقوبات.
التهديد الحقيقي للتوازنات يذهب إلى مدى أبعد، إذ تمتلك فنزويلا ما يُقدَّر بنحو 303 مليار برميل من احتياطيات النفط المؤكدة. الأمر الذي يجعل فنزويلا تملك بمفردها نحو ربع إجمالي احتياطات أوبك+ البالغة 1.241 تريليون برميل.
ويراهن الرئيس بايدن على أن فنزويلا مطيعة، بقيادة مادورو، أو موالية للولايات المتحدة بقيادة إحدى شخصيات المعارضة، سوف تكون لاعبا رئيسيا في الضغط على أوبك+ والدفع بأسواق النفط إلى خفض الأسعار إلى مستوى يمكن أن يتراوح بين 60 و70 دولارا للبرميل.
المفاوضات بين سلطة الرئيس مادورو والمعارضة التي استؤنفت في مايو الماضي، أي بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الحرب في أوكرانيا، سمحت بتخفيف بعض القيود عن صادرات النفط الفنزويلية إلى أوروبا منذ مطلع يونيو الماضي. ولكن خطط “إعادة تقييم” العلاقات الأميركية مع السعودية التي أعلنها الرئيس بايدن عقب قرار أوبك+ في أكتوبر الماضي بخفض إنتاج النفط بنحو مليوني برميل، كانت هي حجر الزاوية للاتفاق السريع الأخير بين هذين الطرفين اللذين ظلا يتنازعان على السلطة منذ العام 2018 عندما تمت إعادة انتخاب مادورو.
ويشكل رفع العقوبات، أو حتى مجرد تخفيفها، عن فنزويلا نافذة نجاة فعلية لبلد صار يفتقر إلى كل شيء، في ظل أزمة أدت إلى فرار 7 ملايين مواطن من البلاد، وإلى انهيار عملته، بعد أرقام تضخم فلكية وصلت إلى نحو 10 آلاف في المئة في العام 2019 وانخفضت إلى 3 آلاف في المئة في العام 2020، قبل أن تتراجع خلال هذا العام إلى نحو 300 في المئة. وهو بحد ذاته رقم فلكي آخر.
ونافذة النجاة مهمة لسلطة الرئيس مادورو، بمقدار ما هي مهمة لزعيم المعارضة حوان غوايدو، ما يجعلهما مستعدين لضمان عودة قوية لفنزويلا إلى سوق النفط، بصرف النظر عن تأثيراتها على الأسعار.
ولكن الأمر ليس بعيدا عن قدرات أوبك+ على التحمل. لأن خفض الإنتاج في موازاة التدفق المحتمل للنفط الفنزويلي يظل أمرا ممكنا، لاسيما وأن عددا من الدول المنتجة للنفط تضخ بأقصى مستويات الإنتاج. وهو ما يسمح لمجموعة أوبك+ أن تخطط لخفض جديد من دون أن يؤدي إلى إلحاق أضرار كبيرة في النطاق السعري الحالي للنفط. وبينما تحملت السعودية وروسيا نحو نصف معدل الخفض، أي نحو نصف مليون برميل لكل منهما، فبوسعهما تقاسم المزيد من الخفض.
التقديرات الحالية لأوبك+ تشير إلى أن المجموعة تضخ 41 مليون برميل يوميا من النفط. وبينما لا يشكل الخفض الذي تقرر في أكتوبر الماضي أكثر من 2 في المئة من إجمالي الإنتاج العالمي في الأسواق، إلا أن الولايات المتحدة اتخذت منه ذريعة لإعادة تقييم علاقاتها مع السعودية، ليس لأسباب نفطية، وإنما لأسباب تتعلق بالابتزاز، وهو ما قد يشمل تراجع التزاماتها الأمنية حيال التهديدات التي تشكلها إيران أو ميليشياتها في العراق واليمن.
السعودية دافعت عن الخفض بوصفه إجراء تقنيا تمليه متطلبات الاستقرار في سوق العرض والطلب، ويأخذ بنظر الاعتبار واقع الركود الاقتصادي المتوقع العام المقبل، ليس في الصين وحدها، وإنما في الاقتصادات الغربية التي تكافح من أجل خفض التضخم بتقليص الطلب.
ويقول مراقبون إن السعودية التي تنتظر الشهر المقبل انعقاد القمة العربية الصينية، تستعد لإعادة التقييم، بإعادة تقييم مضادة، تحررها من الركون على الدعم الأمني الأميركي، وتفتح أمامها أسوق سلاح أخرى. ما يمكن أن يسحب من تحت أقدام الشركات الأميركية عشرات المليارات من الدولار من عقود التسلح.
وفي حال قررت أوبك+ تكرار الخفض أو زيادته، فذلك سيكون مؤشرا إلى تحولات إستراتيجية تطغى على العلاقة بين واشنطن والرياض على امتداد السنتين الباقيتين من سلطة الرئيس بايدن، بل وربما أبعد منهما أيضا.
العرب