بغداد– حوّل تراخي دور الأجهزة الرقابية وغيابها في العراق بعد عام 2003 العقارات إلى بيئة ملائمة لغسيل الأموال عن طريق شراء العقارات والأراضي الزراعية؛ مما جعل عقارات العاصمة العراقية بغداد هدفا للمتهمين بالفساد وسرقة المال العام.
ويعزو مراقبون ارتفاع أسعار عقارات بغداد -بنسبة تجاوزت 50% لتزيد عن أسعار مثيلاتها في بلدان مجاورة- إلى وجود عمليات تبييض أموال، لا سيما بعد إدراج عدد من الشخصيات السياسية وقيادات بعض الأطراف النافذة على قوائم عقوبات وزارة الخزانة الأميركية، مما دفعهم إلى تغيير استثماراتهم عبر شراء العقارات بدل تهريبها خارج البلاد.
وعلى مدى سنوات عدة، كان العراق من ضمن قائمة الدول شديدة المخاطر في مجال غسل الأموال، إلا أن الحكومة العراقية أعلنت في التاسع من يناير/كانون الثاني 2022 رفع اسم البلد من قائمة الاتحاد الأوروبي للدول ذات المخاطر العالية في مجالي مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
عالميا، وحسب إحصاءات صندوق النقد الدولي، يتراوح حجم الأموال المتداولة في غسل الأموال بين 950 مليارا و1.5 تريليون دولار، ويحتل العراق موقعا متقدما بين الدول التي يتفشى فيها غسل الأموال.
كما ورد في تقرير للجنة المالية في البرلمان عام 2015 أن العراق يعد من بين أكثر 6 دول فسادا في العالم، وأن رموز هذا الفساد هي مصارف، وشركات، وشخصيات زورت وثائق لتهرب مبالغ مالية ضخمة نحو عدة بلدان.
وتُعرف عملية تبييض أو غسل الأموال بأنها تحويل الأموال الناتجة عن ممارسة أنشطة غير شرعية إلى أموال تتمتع بمظهر قانوني سليم. أما تعريفها القانوني فهو “قبول الودائع أو الأموال المُستمدة من عمل غير مشروع أو إجرامي وإخفاء مصدرها أو التستر عليها”.
يحدث ذلك مع أن العاصمة العراقية -التي يبلغ عددها سكانها نحو 9 ملايين نسمة من أصل أكثر من 41 مليونا هم مجموع سكان العراق- غارقة في الفوضى وشوارعها مُزدحمة وتُعاني من تردي الخدمات وانقطاع الكهرباء وتدهور البنية التحتية وارتفاع معدلات الفقر التي تزيد على 20%.
ويضاف إلى ذلك تصنيف بغداد ضمن المدن الأسوأ في العالم من حيث المعيشة، إذ جاءت في المرتبة الأخيرة عام 2019 من قائمة تضم 231 مدينة، وفقا لمؤشر جودة الحياة المعيشية (ميرسر).
تواصلت الجزيرة نت مع 4 مكاتب عقارية في أحياء مختلفة من بغداد للوقوف على تأثير عمليات غسل الأموال على زيادة أسعار العقارات وقطع الأراضي في العاصمة؛ رفض 3 منهم التحدث لأسباب تتعلق بحساسية الموضوع، في حين وافق واحد فقط، بشرط عدم ذكر اسمه خوفا على حياته.
ويكشف صاحب المكتب عن ارتفاع نسب الإقبال على شراء العقارات في بغداد بصورة عامة إلى نحو 60% خلال السنوات الخمس الماضية بسبب دخول تبييض الأموال على الخطّ من قبل بعض التُجار والشخصيات السياسية النافذة.
هذا الإقبال ظهر جليا على بعض المناطق الراقية في بغداد بارتفاع أسعارها إلى 3 أو 4 أضعاف؛ فمثلا سعر المتر التجاري الواحد في مناطق العرصات والجادرية والمنصور زاد من نحو 4 آلاف دولار إلى أكثر من 13 ألف دولار، وفي بعض المناطق فاق 16 ألف دولار، وفي المناطق السكنية قفزت الأسعار من 500 دولار إلى نحو 4 أو 6 آلاف دولار وأكثر.
وزاد الإقبال على شراء العقارات التجارية بالدرجة الأساس أكثر من السكنية، مثل المحلات الكبيرة (المولات) والبنايات الضخمة، وبلغت ذروتها خلال السنوات الثلاث الأخيرة، لا سيما من أصحاب المصارف والبنوك، مما انعكس على الإيجارات التي ارتفعت لـ4 أضعاف تقريبا. وتتم عمليات الشراء عبر “ظلّ المسؤولين” أو السماسرة، كما بيّن صاحب المكتب العقاري للجزيرة نت.
وفي عام 2007، أنشأت الحكومة العراقية مكتب مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ضمن هيكل البنك المركزي، وأعيد تشكيله عام 2015 بعد صدور قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب رقم (39) لسنة 2015.
عضو لجنة النزاهة في الدورة السابقة بمجلس النواب العراقي كاظم الصيّادي بدا متفقا مع كثيرين بشأن عدم وجود جدية في محاربة ظاهرة ارتفاع أسعار العقارات التي سُميّت بأسماء مختلفة لما يصفها بـ”اقتصادات” زعامات حزبية وسياسية داخل الدولة العراقية.
أكثر ما يستند إليه الصيادي في هذا التوجه هو أنه تمت المطالبة أكثر من مرّة بإيقاف جميع حالات البيع والشراء في المناطق الراقية والمُهمة مثل المنصور والكرادة والداؤودي والعرصات وغيرها، فضلا عن تقديم نسخة من طلب الشراء إلى لجنة النزاهة لمعرفة مصدر تلك الأموال، ولكن من دون جدوى.
ويعزّز رأيه أكثر بانتقاده عدم وجود جدية لمكافحة هذه الظاهرة من قبل الحكومات السابقة، ولا حتى الجهات التنفيذية؛ مثل هيئة النزاهة ودائرة مفتشية العموميين والادعاء العام، موضحا أن “الكل يعلم أن معظم عمليات البيع تمت من خلال تبييض أموال كثير من السياسيين”.
وأكد الصيادي للجزيرة نت أن أغلب الأحزاب السياسية تضم بين صفوفها الكثير من المتورطين في هذه الظاهرة.
وأشار تحديدا إلى فترة حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، ووصفها “بالحقبة الفاسدة السوداء”، مشيرا إلى أن حجم غسل الأموال الذي قامت به شخصيات عراقية نافذة في إحدى دول الجوار ارتفع من 18 مليار دولار إلى نحو 60 مليار دولار.
وطالب الصيادي بتشكيل لجان مُختصّة لمراقبة ومتابعة مصادر هذه الأموال والأسماء والشخصيات التي تمتلكها. مُقدّرًا حجم تبييض الأموال في عقارات العاصمة بما بين 5 إلى 10 مليارات دولار، وقد ترتفع لأكثر من ذلك بكثير.
تسمم المال
السرية والبيئة المُتساهلة السائدة في السوق العراقي الحرّ جعلتا العقارات مُستنقعا وملاذا لتبييض الأموال وغسلها، وارتفعت إثر ذلك الأسعار، وهذا ما تؤيده إلى حد بعيد الباحثة الاقتصادية سلام سميسم “مع وجود كميات كبيرة من الأموال المتوفرة لدى طبقة معينة، وهي محاصرة لا يمكنها إخراج أموالها خارج البلد، لذلك باتت تتاجر بالعقارات بوصفها واجهة من واجهات استثمار هذه الأموال”.
وفي حديثها للجزيرة نت، تبدو الباحثة الاقتصادية مستغربة من الحركة السريعة في إنشاء مجمعات سكنية وبأسعار وصفتها “بالخرافية”، حيث يصل سعر الشقة الواحدة بمساحة أقل من 200 متر نحو نصف مليون دولار، “هذه الظاهرة تؤكد أن من أنشأ مثل هذه المشاريع حظي باستثناءات ودعم قانوني، وتكشف حجم الأموال المُبيضة فيها”.
وفي تغريدة له على تويتر، قال النائب مصطفى سند “شبكات المال القذر خالطت المال النظيف؛ عقارات وفنادق ومجمعات تجارية وصيرفة وغيرها، وشاركت ذلك أو اشترت من رجال أعمال لا علم لهم بمصدر الأموال ولا ذنب لهم قانونا. وجهة نظري هي عدم معاقبة الجميع بسبب تسمم دم المال في جسد الاقتصاد، نحتاج الى جراح محترف”.
الجدير بالذكر أنه في نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، كان يُسمح بامتلاك العقارات في بغداد لمن عاشوا فقط فيها منذ تعداد عام 1957 على الأقل، وكذلك أبناؤهم وأحفادهم، وبعد عام 2003 أصبح بإمكان أي شخص شراء العقارات في العاصمة.
المصدر : الجزيرة